مناورات قديمة متجددة والعبرة في استخلاص الدروس

يتراءى لبعض المحللين أن يفسر الإجراءات التسهيلية التي أقدمت عليها إسرائيل مؤخراً تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية، على أنها تستهدف من بين جملة من الإجراءات الأخرى، معالجة الأزمة الاقتصادية التي تجر احتجاجات جماهيرية في إسرائيل، وربما تستهدف أيضاً المساهمة في معالجة الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية منذ بضعة أشهر. في الواقع فإن إقدام إسرائيل على منح ثلاثة آلاف تصريح عمل، وعشرات آلاف تصاريح زيارة لاسرائيل، ينطوي فعلياً على مؤشرات مالية، ذلك أن زيارات الفلسطينيين لتلك الأراضي تستند على أبعاد سياحية، وتساهم في امتصاص قدر من مدخرات الفلسطينيين وإنعاش السوق الداخلية عبر عمليات التسوق. مثل ذلك فإن عودة إسرائيل للاعتماد جزئياً على العمالة الفلسطينية من الضفة الغربية، قد يساعد في صرف العمالة الأجنبية، التي تحصل على أجور أعلى، وتقوم بتحويل فائض أموالها إلى بلدانها الأصلية.

غير أن السؤال هو، هل تندرج هذه الإجراءات في سياق سياسة جديدة، تستهدف العودة إلى الاعتماد بالأساس على العمالة الفلسطينية، بعد سنوات طويلة، من سياسة استبدال هذه العمالة بعمالة أجنبية، خصوصاً في ضوء تدهور الأوضاع الأمنية الداخلية في إسرائيل خلال السنوات الخمس الأولى من انتفاضة الأقصى؟ إن صح ذلك فإن على من تبنى هذا التحليل، أن يمد الخيط إلى آخره، نحو أن يكون ذلك تراجعاً عن سياسة الفصل العنصري التي تبنتها ومارستها عملياً الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وكان من أبرز مؤشراتها، إعادة انتشار إسرائيل لوجودها العسكري والاستيطاني في قطاع غزة، ومواصلة بناء جدار الفصل العنصري، بالإضافة إلى سياسة توسيع القدس وعزلها عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهل هذا واقع الحال؟ ثم هل لأحد أن يعتقد بأن الإجراءات التسهيلية الإسرائيلية الممنوحة لسكان الضفة يمكن أن تثمر عائدات مالية واقتصادية، بالقدر الذي يساعد في تجاوز إسرائيل لأزمتها الاقتصادية والمالية، التي لا تزال تتفاقم، وتحتاج إلى إجراءات جذرية واسعة، ومليارات كثيرة لا تتوفر لدى الفلسطينيين، حتى لو أن إسرائيل قامت بتوسيع إطار تلك الإجراءات التسهيلية؟

ونضيف تساؤلاً قد يكشف عن أبعاد تلك الإجراءات التي نعتقد أنها مؤقتة وهو لماذا أقدمت إسرائيل خلال شهر رمضان على تخفيف الإجراءات الأمنية المتعلقة بوصول الفلسطينيين إلى القدس؟ فبالرغم من التصريحات الفلسطينية التي تشير إلى كم من الصعوبات التي تضعها إسرائيل لمنع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى، إلا أن هذه الإجراءات أقل تعقيداً مما تعودنا على أن نراه من إسرائيل سواء في شهر رمضان أو في غيره؟

الأرجح أن الأمر ينطوي على مناورة جديدة، ومنسقة بين الإدارتين الإسرائيلية والأميركية وتستهدف في الأساس منع الفلسطينيين من التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنيل الاعتراف بمكانة دولة بصفة مراقب في المؤسسة الدولية، خلال دورتها للعام الحالي في ايلول. المناورة التي تأخذ بمعادلة العصا والجزرة، تقضي بأن تواصل الولايات المتحدة ضغوطها على السلطة من باب حاجة الموازنة للمال لتغطية نفقاتها الجارية، فيما تقدم إسرائيل بعض الإغراءات من النوع والمستوى الذي أشرنا إليه، وبالإمكان توسيعها في حال وافقت السلطة على تأجيل توجهها نحو الأمم المتحدة.

إسرائيل عملياً، تقدم هذه الإغراءات في إطار سياسي وليس اقتصاديا، ذلك أن دعوات زعيم حزب كاديما الجنرال شاؤول موفاز، للرئيس محمود عباس، للعودة إلى المفاوضات إنما تشكل الغطاء السياسي لتلك الإجراءات، وتحاول إسرائيل من خلالها، تسويق مرونة كاذبة على المجتمع الدولي بأنها مستعدة للمضي قدماً في تحقيق السلام. الإدارة الأميركية تلوح للسلطة بيد تحمل مئتي مليون دولار، وفي الوقت ذاته تكشف عن تقرير سنوي صادر عن الخارجية الأميركية بشأن الإرهاب عام 2011، يتضمن للمرة الأولى إدراج المستوطنين على قائمة الإرهاب.

هذه البادرة، تنطوي على نحو مباشر وغير مباشر على موقف أميركي من الاستيطان، لم تعد الإدارة الأميركية الحالية قادرة على الجهر به كما فعلت في بداية عهدها، لكنه موقف أيضاً يعفي حكومة نتنياهو من تهم الإرهاب، وانتهاكات القانون الدولي، وإلغائها بجرائم حرب ضد الفلسطينيين كما ورد في تقرير القاضي ريتشارد غولدستون. الغريب في الأمر أن الرئيس محمود عباس لا يزال متفائلاً، بإمكانية أن يكون العام المقبل عام الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية، فيما هو يعرف أكثر من غيره أن عملية السلام وإن كانت لا تزال قائمة إلا أنها جعجعة بلا طحين، أي عملية بدون سلام، وأن إسرائيل خلقت من المعوقات أمام الدولة وعاصمتها القدس، ما يحيل هدف الدولة إلى شعار أو حلم.

إذا كان الأمر كذلك، فإن من المهم أن نعرف، من الرئيس، ما إذا كانت الدولة ممكنة التحقيق العام المقبل، أو خلال الأعوام المقبلة، أم أن ما يقوله يأتي في سياق تطلبات العمل السياسي، أما في الواقع، فإن عملية السلام فشلت وبلغت نهاياتها المأساوية. ثمة فرق وفرق كبير بين الاستنتاجين، فإن كان ثمة عملية سلام، وإمكانية لتحقيق الدولة فإن عليه أن يوضح الأمر للفلسطينيين، إذ ربما يقبلون أية تبريرات تتصل بالتريث إزاء خيار الأمم المتحدة، أما إن كان الأمر ميئوساً منه، فإن خيار الأمم المتحدة يصبح واجباً، وضرورياً رغم ما قد ينطوي عليه من معاناة لخزينة السلطة الوطنية.

الخوف من معاناة خزينة السلطة لا مبرر له في الواقع، فالكل يعرف بأن وجود السلطة مطلوب، ومطلوب أن تستمر بدورها ووظيفتها، وربما كانت إسرائيل أشد حرصاً على وجودها، ولذلك فإن لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل ولا المجتمع الدولي سيسمحون بأن يندفع الفلسطينيون نحو خيارات أخرى جذرية، ربما يكون من بينها خيار حل السلطة، عندما يقتنع الجميع بأن وجودها يشكل عبئاً ثقيلاً على الشعب الفلسطيني وقضيته وأهدافه الوطنية. في هذا الإطار فإن ثمة هدفا آخر للإجراءات الإسرائيلية، وهو هدف دائم يتصل بتفريغ شحنات الغضب الفلسطيني حتى لا ينفجر هذا الغضب انتفاضة في وجه إسرائيل.

إن موضوع انفجار خزان الغضب لا يمتلك قراره جهة فلسطينية معينة، فصيلاً أو إطاراً قيادياً، فقد يبلغ مستوى هذا الغضب حداً يسمح لحماس، أو أي فصيل آخر، أن ينتقل به إلى مستوى الانتفاضة وحينها لن تكون ضد إسرائيل وحدها بل ضد السلطة أيضاً. ومرةً أخرى ومثلما في كل مرة تواجه فيها السلطة أزمة وضغوطاً من النوع الذي تتعرض له، فإن الدول العربية، تتحمل مسؤولية أساسية، وهي شريكة في خلق هذه الأزمة وتلك الضغوط، ما يستدعي التعامل فلسطينياً معها بطريقة مختلفة عن طريق المجاملات والتواطؤ عن دورها ومسؤوليتها.ولهذا واستناداً إلى قراءة موضوعية لتطور الأحداث والوقائع، فإنه يتوجب على السلطة، والأحرى القيادة الفلسطينية، أن تحزم أمرها، وأن تبدأ بالإجراءات القانونية والسياسية، اللازمة لطرح مكانة الدولة في الاجتماع المقبل للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن تشق طريقها نحو توسيع وتعظيم الاشتباك مع الاحتلال على مختلف المستويات، بما في ذلك توسيع وتعظيم أشكال المقاومة الشعبية.