العيد في حضرة المتنبي الذي لا يُجارى

تذوب على حافة الأحزان، فرحة الصائمين في عيدهم. تبدو غبطة الهانئين، مُفتقَدَةً، حائرة في أيامنا، تراوح بين نقطتين تستعصي فيهما وعليهما السعادة، على النحو الذي وصفه أبو الطيب المتنبي في قصيدته الخالدة ذات الاستفهام التقريري: "بأية حال عُدت يا عيدُ". . بما مضى (على مرارته) أم بأمر فيك تجديدُ؟! غير أن التجديد المبهج بلقاء الأحبة، بدا لأبي الطيب، بعيد المنال، بل إن طول المسافة بينه وبين من يسره رؤيتهم، جعلته يتمنى أن تبتعد المسافة بينه وبين عيد بلا حبور، بمثل ما تمتد المسافة بينه وبين الأحبة، بعُرض صحراء دونها صحارى: فليتَ دونك بيداً دونها بيدُ.

الخذلان عنوان الألم، كما وصف المتنبي أيضاً: جودُ الرجال من الأيدي، وجودهم من اللسان، فلا كانوا ولا الجودُ.. ما يقبض الموت نفساً من نفوسهمِ، إلا وفي يده من نَتْنها عودُ! نحن محاصرون بشكل عام. حالنا مع العالم، كحال المتنبي مع كافور الإخشيدي. كانت بين الطرفين محاولة وداد، لكن طبائع اللؤم والضآلة غلبت في النهاية. الأميركيون عبيد الصهيونية، وكثير من الحاكمين عبيد الأميركيين، وأتفه القوم يتجبر على أكرم الناس: صار الخَصيُّ إمام الآبقين بها، فالحرُ مُستَعبدٌ والعبد معبود ُ... ما كنت أحسبني أحيا، الى زمنٍ، يُسيء بي فيه، عبدٌ وهو محمودُ! ففي سوريا الأبية، قلب العروبة النابض، يدحرج العبيد الصاغرون أمام العدو، براميل النار على الشعب. لم نكن نعلم، قبل أن يبادروا الناس بنيران تتلظى، فيما هم يعلنونها "سلميّة"؛ أن القتلة يمتلكون كل هذا المخزون الذي لا ينفد، من قذائف الموت. ثمانية عشر شهراً، لم تخبو فيها حمم نيرانهم التي ظلت عاجزة عن التوجه الى حيث الأراضي السورية المحتلة منذ 45 عاماً. لم يكن هناك معتصم عربي يمتلك جيشاً، يلبي نداءات آلاف النساء التي استغاثت ممن هم أعتى من الروم الأقدمين.

فشتّان بين واقع المجد الوضيء، وواقع الذُل الوبيء. كان المعتصم لاهياً مثلما هم اليوم لاهون ولكن عندما صاحت امرأة "وامعتصماه" لبى النداء وترك كأس الخمر، عندما بلغته الصرخة. لقد استغاثت إمرأة من "زبطرة" التي تقع اليوم في تركيا عند أحد منابع نهر الفرات، وكانت يومها من الثغور الإسلامية. قالت المرأة يومها: يا ابن الخلائف، من ذؤابة بني هاشم، ذَهَبت "زبطرة" إن لم تأتها! أما غزة، فإنها ما تزال عُرضة لمحاولات تطبيق مقولة توراتية: "وستكونين يا غزة، متروكة من وجه الرب". تُركت أسيرة محبسي الانقلاب والحصار، والمحتلون يعربدون في الضفة الفلسطينية.

وأهل البلاد يقفون عند خط الدفاع الأخير، حيث ينتظرون الغيث بأبسط مقومات الحياة! العالم العربي يلملم جراحه في بلدان الثورات المنتصرة. والعيد بأي حال يعود، بما مضى، أم أم لأرضي فيكِ تهويدُ! في حضرة المتنبي، يتبدى سيف الدولة، رمزاً للشجاعة، والبطولة، والحُلم المزدان بالعزّة، بينما كافور، هو رمز أيامنا. الخسة والعبودية والنكران، ودناءة سلطة الاستبداد الغاشم، وكل الترهلات. واقعان وعالمان، الأول يرمز الى الطموح والكبرياء، أما الثاني فهو رمز الهزيمة والهوان والخذلان. في يوم العيد، وعلى الرغم من بؤس الحال، فإني بما أنا شاكٍ منه محسودُ، حسب تعبير أبي الطيب.

لكننا لن نيأس، لأن "مثل أبي البيضاء موجودُ"! كل عام ونحن أقل شقاءً. كل عام ونحن ماضون على طريق النضال الفاعل. كل عام ونحن شوكة في حلق الاحتلال العنصري الإقصائي.

كل عام والأمة مستقرة هانئة في أوطانها، لكي يصبح جُودها من الأيدي لا من اللسان. كل عام وأهل الفتنة المستعصين على المصالحة، متوارين عن الأنظار وعن الشمس، ملتزمين شقوقاً مظلمة. كل عام و"فتح" رائدة الكفاح الوطني في التاريخ المعاصر، عفيّة منسجمة مع نفسها، متحسسة للأخطار، مؤدية دورها مثلما كانت في أيام رجالاتها الكبار. كل عام وكل الوطنيين بخير. كل عام والقصيدة الداليّة، للمتنبي، محالة الى بطون الدواوين، لا الى واقع الحياة.

كل عام والحب في انتعاش. كل عام وأسرانا يتنسمون هواء الحرية الطلق. كل عام وشهداء فلسطين، أعمق حضوراً في الوجدان، والأحياء أكثر وفاءً. كل عام والقدس أيقونة فلسطين، أرفع شأناً في القلوب وأقوى مكانة في العزائم. كل عام والإعلاميون الوطنيون باقون على مثابرتهم ومضاء هممهم. كل عام وأنتم جميعاً بخير!