قطاع غزة والأمن القومي المصري

قيام مجموعة من الجهاديين المتطرفين بعملية إرهابية في صحراء سيناء في الخامس من الشهر الجاري والتي ذهب ضحيتها 16 جندياً مصرياً كانوا يتناولون طعام الإفطار، والاستيلاء على عربيتين مدرعتين والتوجه فيهما إلى إسرائيل حيث انفجرت واحدة ودمر الطيران الإسرائيلي الأخرى. كشف عن هشاشة الوضع الأمني في منطقة صحراء سيناء التي تتقاطع فيها مجموعة من المصالح والقوى المتناقضة والتي يمكن أن تدفع منطقة صحراء سيناء إلى الانفجار، وبالتالي تدفع المنطقة إلى الكارثة.

هذا ما دفع السلطات المصرية إلى شن حملة عسكرية واسعة في صحراء سيناء. وإلى جانب الهشاشة الأمنية كشفت العملية هشاشة الوضع السياسي في مصر ما بعد ثورة 25 يناير، والتي دفعت الرئيس محمد مصري لاتخاذ قرارات كبرى بإقالة وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري المشير محمد حسين طنطاوي ورئيس أركان الجيش المصري الفريق سامي عنان، وهو ما شكل محاولة لحسم ازدواجية السلطة التي كرسها التعديل الدستوري، والذي ألغاه الرئيس مرسي من ضمن القرارات الأخيرة.

رغم أن الهجمات من هذا النوع ليست بالجديدة، لكن جرأة هذه العملية واستهدافها لجنود مصريين ومن ثم محاولة استهدافها إسرائيليين والحديث عن مشاركة فلسطينيين في هذه العملية ينتمون إلى «جيش الإسلام» بالاشتراك مع حركة «التوحيد والجهاد» المصرية.

وهو ما دفع الوضع الأمني في تلك المنطقة إلى الواجهة ووضعها مرة واحدة برسم الجميع، مصر، وحركة حماس، وإسرائيل، بعد تجاهل الوقائع المتراكمة في سيناء طوال السنوات المنصرمة.

سارعت حركة حماس المرتبكة من العملية إلى نفي أي علاقة لها ولأي فلسطيني في العملية التي أدانتها، واتهمت إسرائيل بها، كما أدانتها كل الأطراف الفلسطينية.

وفي مصر تم تحويل الأنظار إلى الطرف الضعيف في العلاقة المثلثة، وتوجيه الاتهام لفلسطينيين عبروا أنفاق رفح ليقوموا بالعملية.

على أثر العملية تم الاعتداء على الكثير من الفلسطينيين في سيناء وتم إغلاق معبر رفح وشرع في إجراءات أمنية في سيناء لملاحقة المتطرفين، وشرعت السلطات المصرية بهدم الأنفاق الواصلة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية التي تعد حوالي 1200 نفقاً تشكل شريان الحياة بالنسبة إلى قطاع غزة، ومصدر رزق لشريحة واسعة من المصريين العاملين في التهريب عبر الأنفاق.

لا يمكن عزل العملية عن مجمل التطورات التي شهدتها صحراء سيناء، والتداخل التاريخي بينها وبين قطاع غزة الذي يشكل المركز الحضري والجاذب لبدو سيناء في ظل التهميش الطويل الذي عانت منه سيناء في إطار الدولة المصرية التي تشكك في ولاء بدو سيناء للدولة المصرية، وهو ما ولّد جواً معادياً للدولة المصرية بين أوساط بدو سيناء بسبب المظالم المتراكمة.

في الوقت الذي همشت مصر بدو سيناء، شكلت التجارة الحالية مع قطاع غزة المورد الأكبر لسيناء، فهي تقدر بحوالي ملياري دولار. بالإضافة إلى تهريب السلاح إلى قطاع غزة والذي لا تُعرف عنه أرقام محددة، وفي السنوات الأخيرة التي شهد فيها قطاع غزة حصاراً، أصبح اقتصاد الأنفاق جزءاً أساسياً من اقتصاد المنطقة التي باتت تعتمد بشكل أساسي على تهريب البضائع بكل أنواعها إلى القطاع.

تضامنت مجموعة من العوامل لتجعل من سيناء منطقة لها خصوصيتها في التجربة المصرية وفي العلاقة الخاصة مع قطاع غزة. بدأت بالإدارة المصرية لقطاع غزة بعد نكبة العام 1948، حيث خضع القطاع للسلطة المصرية بسبب غياب فلسطين عن الخريطة السياسية في المنطقة.

وزاد من هذا الارتباط خضوع صحراء سيناء للاحتلال الإسرائيلي مع قطاع غزة بعد حرب العام 1967، وهو ما عزز الروابط على كل المستويات التجارية والعلاقات الاجتماعية وبتصاهر العائلات، وأصبحت السلطات العشائرية ذات مرجعية واحدة من الوجهات التي تضم خان يونس ورفح الفلسطينيتين ومنطقة الشيخ زويد وقبائل سيناء وصولاً إلى النقب الشمالي، وهو ما جعلهم يشعرون بارتباط مصيرهم في ظل الاحتلال.

جاءت اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1979، لترسم الحدود بين الطرفين وتقطع هذه العلاقة إلى حد ما دون أن تلغيها، إلا أن الطرفين باتا يعيشان في بلدين مختلفين تفصل بينهما حدود دول. مع تجربة كامب ديفيد قطعت مصر العلاقة مع القضية الفلسطينية، بحيث تمت استعادة الأراضي المصرية بموجب اتفاقات كامب ديفيد إلى السيادة المصرية، وبقي قطاع غزة يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، بذلك خرجت مصر من القضية الفلسطينية.

لأن مساحة صحراء سيناء تبلغ حوالي ثلاثة أضعاف إسرائيل، فقد قضت اتفاقات كامب ديفيد بإبقاء سيناء منطقة منزوعة السلاح، وبوجود محدود للقوات المصرية، وتكريسها كمنطقة عازلة بين إسرائيل ومصر. غياب الدولة المصرية وتهميش المنطقة من قبل السلطة في القاهرة دفع إلى بروز سلطات عشائرية تسيطر على المنطقة وشكلت الحاكم الفعلي لها.

وهذا الواقع جعل سيناء مرتعاً للاتجاهات الإسلامية المتطرفة بوصفها منطقة بعيدة عن السلطة المركزية في القاهرة، بحيث أخذت تنمو وتبني اقتصادها وسلطتها أيضاً. كما شكل قطاع غزة في سنوات الحصار لقطاع غزة مصدراً لنمو الأعمال والتهريب لكل أنواع البضائع التي يتعطش لها القطاع المحاصر، ما ولد أغنياء جدد في المنطقتين، فكل نفق من الـ 1200 المستخدمة في التهريب، له فتحتين، واحدة في الأراضي الفلسطينية وأخرى في الأراضي المصرية، ما يعني هناك مستفيدين على الجانبين.

لا شك في حق السلطات المصرية في فرض سيادتها على كل الأراضي المصرية، وسيناء أرض مصرية وتشكل جزءاً من الأمن القومي المصري، ولا يمكن استثناء صحراء سيناء من الحق السيادي المصري. ومن حق السلطة في مصر ملاحقة المتطرفين في صحراء سيناء أو في غيرها من المناطق المصرية. ولكن لا يمكن معالجة القضية الأمنية المصرية بطريقة ملتوية، وتحميل المسؤولية لأطراف لا تشكل خطراً فعلياً على الأمن القومي المصري، ولا يمكن حل المشكلة الأمنية المصرية في صحراء سيناء بالوسائل العسكرية فقط.

فما جرى من تحميل المسؤولية للطرف الفلسطيني عن تلك العملية واتخاذ إجراءات عقابية جماعية بحق الفلسطينيين وقطاع غزة، هو معالجة تدفن رأسها في التراب وترى تهديد الأمن القومي المصري في المكان الخطأ. فمن يهدد الأمن القومي المصري هو الطرف الإسرائيلي ويحب عدم الخلط بين حماية أمن إسرائيل وحماية الأمن القومي المصري، فمن فرض نزع السلاح على المنطقة وفرض وجود محدود لقوات الشرطة المصرية هو إسرائيل، وقطاع غزة هو امتداد للأمن القومي المصري وليس تهديداً له.

ولا شك بأن تهديد الأمن القومي المصري لا يأتي من صحراء سيناء فحسب، بل من تهديدات منابع النيل أيضاً، وغيرها من التهديدات. لذلك على السلطة الجديدة في مصر إعادة النظر في مفهوم الأمن القومي المصري، بعد الثغرات الكبرى التي تعرض لها في ظل حكم الرئيس السابق حسني مبارك.

ولذلك ما تحتاج له سيناء ليس حملة أمنية عسكرية على أهميتها، فهي وحدها غير قادرة على اقتلاع التطرف، فسيناء بحاجة إلى برنامج تنمية عاجلة ومكثفة لإخراج المنطقة من تهميشها التاريخي، وعلى الدولة المصرية أيضاً تحديد حقيقة الموقف من قطاع غزة بوصفه امتداد للأمن القومي المصري، وليس تهديداً له كما ظهر في تداعيات العملية التي استهدفت الجنود المصريين.