ملاطيش "الجافيل"

ملاطيش "الجافيل" في أيام الركود والانكفاء والقحط، يتكاثر المتكلمون في السياق الصادم لأذهان عامة الناس ومعارفهم، وهؤلاء شغوفون بإحداث الرنين، للوعي الجمعي، إذ يطْلعون بأفكار لا تجيب عن أسئلة، ولا تقدم حلاً لإشكالية مطروحة، ولا تسعف حائراً، وإنما تسعى لافتعال إضاءة مبرقة، شبيهة بتلك التي يصدرها "فلاش" التصوير، على أمل أن تتركز اللقطات على سخفاتهم، وليس مهماً بعد ذلك ما إذا كان الناس سيقبضون الفكرة التي يطرحون، ويعتمدونها، أم إنهم سيقابلونها بالسخرية!

أيامنا مجدبة فعلاً، وظاهرة "الملاطيش" المتكلمين بالصادم وبالمقلوب، تتنامى باطّراد في أيام الجدب، لكن هناك من المتكلمين، من هم صادمون لئام، وآخرون على باب الله، يطرحون الصادم والمقلوب، دون أن يكونوا لئاماً أو معتوهين، أي إن بعض ذوي الطلعات العجيبة، هم من الطبيعيين وغير ذوي الاختلال النفسي الكبير.

لكن خللاً ما، في المنظومتين النفسية والذهنية، يطرأ عندهم بين فترة وأخرى، بعض الوقت تكون أمورهم مستقرة، لكنها تتهيج في بعض الأوقات، وقد حاولت قبل عشرين سنة في الجزائر، شرح هذه الظاهرة التي بدت على البعض، دون أن أهتدي الى تسمية رمزية لها، فأسعفني الصديق الضاحك فايز شراب بتسميتها "جافيل" تشبيهاً لحالات يغيب فيها المنطق، تطرأ بمفاعيل جرعات زائدة من محلول "الكلور"، الذي يستخدمونه لتنقية المياه وإبادة الميكروبات، وتبييض الثياب (ويُسمى بالفرنسية "جافيل")!

إخواننا "الجافيل" يختلفون في أنواعهم، فمن يخرج فجأة مثلاً ، بفتوى تُجيز قيام الموظفة بإرضاع زميلها في مكان العمل، هو غير ذاك الفتى المصري الملطوش، الذي أفتى بأن هرم خوفو أقدس من المسجد الأقصى،الأول، كان رئيس قسم بكلية أصول الدين في الأزهر، ولم يكن مواله أكثر من افتعال إضاءة مبرقة تدل على وتجرئه بـ "الحق" الذي رآه ساطعاً مدراراً لأطيب الحليب، حسب استيعابه للنصوص.

قرأ ابن تيمية والشوكاني وابن حِجر، حول إرضاع الكبير، وغرق في الفكرة حتى الثمالة، والثمالة تضيّع عند صاحبها عنصر الترابط بين المسائل والأشياء، كما يحدث مع السكارى، أراد الشيخ لنفسه علو الشأن سريعاً، دونما تدرج، وظن أن ذلك سيتأتى له بشفاعة أفكار تكسر المألوف وتخترقه، وبالتالي طرح حلاً لإشكالية اختلاء المرأة مع زميلها في مكان العمل، وهو إرضاع الثاني، بعد أن تفطمه الأولى، بفكرة الأخوّة أو الأمومة.

نسي أخونا فقيه الإرضاع، أن خلوة عمل مع صرامة المحددات الأخلاقية في التعامل، أو حتى رخاوة هذه المحددات؛ أهون بكثير، على زوج الأنثى أو أهلها، من إرضاعها لزميلها!

أما محمد أبو حامد، المولود في العام 1973 والداخل الى السياسة والى البرلمان في لحظة تاريخية تخللتها ومضات جنون (2012) فإنه "يفعط" بين الحين والآخر بومضات مثيرة للسخرية، ظناً منه أن سيصبح نجماً. فما أن فاز بمقعد برلماني عن حزب "المصريين الأحرار" حتى خلع من الحزب الذي أوصله، وسرعان ما بدأ الهذيان!

قبل نحو أربعة أشهر، وقف في احتفال لحزب "القوات اللبنانية" في بيروت، ليكيل المديح المبالغ فيه لسمير جعجع: "أشكرك سيدي، فقد ألهمتنا، أيها المسيحي ـ المسلم، الذي علّم الجميع". فلم يتمالك جعجع نفسه، فقهقه ساخراً من كلام هذا الملطوش، كمن يستمع الى نكتة في فيلم ركيك!

اليوم يثير محمد أبو حامد، غرائز حيارى ومأزومين، مستغلاً الحدث الإرهابي في سيناء، فيقارن بين الأهرامات والأقصى، وكان هناك علاقة، حتى في الوظيفة، بين مَعْلَم أثري سياحي هو مقبرة في الأصل، وأولى القبلتين وثالث الحرمين عند المسلمين، والمعتوة يزعم أنه تحصّل على عدة شهادات في الشريعة والعلوم القرآنية. ثم ما هي علاقة الأقصى الأسير، بالمظالم التي يتوجع منها المخبول، أو بجريمة سيناء؟ وما هو داعي المفاضلة بينه وبين الأهرامات؟ لقد كان أبو حمزة المصري، أكثر عقلانية وواقعية، عندما توعد الغرب، من لندن نفسها، في لقطة "جافيل" مضيئة، بأن يرشم السماء بألغام علوية مباركة، يدسها بين الضباب أو فوق السحاب، لتصطدم بها الطائرات الصليبية!

اللافت أن الفتاوى والتصريحات النافرة كلها، لم تكن تجيب عن أسئلة مطروحة، ولا تحل مشكلات تتطلب حلولاً، ولا تسعف حيارى، بكلام اليقين، ولا تفسر تاريخاً ولا تصحح خطأً، هي مجرد أقوال تجمح وتتهيج فجأة، وتجري في غير السياق، أو هي أقوال تطفر محمحمة، مثلما هي الغرائز!

فعلى أي سؤال مثلاً، يُجيب رجل متقدم في السن، ينبغي أن يكون عاقلاً وتقيّاً، وهو يصف الذين غادروا وطنهم مكرهين، بأنهم هربوا طوعاً أو حجباً، ويشوّه سيرة شعبنا، والحركة الوطنية الفلسطينية، ويختزل تاريخها بكلمتين من قاموس ألفاظ كيدية؟ إن كان الهدف هو تغيير الحقائق بمفاعيل "الجافيل" فإن المؤرخين الإسرائيليين الجدد أنفسهم، حسموا الأمر وكذبوا الرواية الرسمية الإسرائيلية، ولن يحييها ألف خارج عن النصوص، ولا ألف برميل من المادة المنظفة والمطهّرة: الفلسطينيون هُجّروا قسراً من وطنهم!

وإن كان الهدف هو شطب التاريخ الفلسطيني، قبل أيام غزة "الهنيّة" باعتبار أن هذا التاريخ أبيض أبله، ولم تكن فيه ومضة مقاومة ولا فكر ولا تدبير، حتى جاءت "حماس" لإحياء تاريخنا برجاحة عقل متفردين منها بالرغي الكثيف، فأدخلت عليه المقاومة وحيثيات العنفوان والكلام الموزون؛ فإن جرعة "الجافيل" هنا تزيد كثيراً.

ويعلم قارئي، ولا نريد هنا أن نخاطب أحداً بعينه، أن محاولة شطب تاريخ المناضلين والشهداء قبل "حماس" وبعدها طبعاً، تخالف أخلاق الإسلام قبل مخالفتها حقائق الرواية التاريخية، فالمصطفى عليه السلام، كان يحمل رسالة سماوية، وكان في المدينة، عندما وقع "يوم ذي قار" أي المعركة التي انتصر فيها العرب في جاهليتهم، على الفرس، تهلل محمد بن عبد الله فرحاً، لكي يتعلّم الناس الكبرياء القومية ولكي يتعلموا الوفاء والعرفان، والاعتراف بفضل الأسبقين من أبناء الأمة، ولكي يفهموا كيف يكون النظر الى المسائل، بل إن محمداً صلوات الله وسلامه عليه، رفع يديه الكريمتين بالدعاء الى الله لمن كانوا على الجاهلية، من بني شيبان وربيعة قائلاً: اللهم انصرهم حتى أرى هزيمة الفرس!

إن كانت تلك هي رؤية النبي حامل رسالة الإسلام، مع واقعة تتعلق بغير المسلمين من قومه، فهل يتجرأ صاحب رسالة أنفاق ومكوس، على النظر بالمقلوب، وبكل هذه الكيدية و"التياسة" لوقائع مسلمين من قومه؟! إنه "الجافيل"؟!

adlishaban@hotmail.com