حدث ويحدث .. في مصر المحروسة!!

يقولون إن التاريخ غالباً ما يعيد نفسه، مرة على شكل مأساة، واخرى - ربما - على شكل مهزلة، وفي كل مرة - كما يقولون - تتكرر الحادثة التاريخية بإخراج جديد وممثلين جدد، ويأخذ التكرار التطور الزمني والمعرفي والتقني في الاعتبار، إلا أن جوهر الحدث المتكرر يبقى كما هو في الأصل وقد تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع ما يجري في مصر المحروسة اليوم، وبالعودة الى الوراء، تذكرت ما سبق وان قرأته في كتاب التاريخ المدرسي منذ زمن بعيد، كيف تخلص محمد علي من المماليك الذين كان قائداً لهم، بعدما استتب له الأمر بالقضاء على آخر المعارضين الشعبيين، عمر مكرم، فقد أغرى محمد علي المماليك بترك الصعيد المصري والإقامة في القاهرة، وأغدق عليهم كي تصبح الحياة في العاصمة المصرية اكثر جدوى بالنسبة لهم، على أن الأمر ينطوي أولا على انه كان يخشاهم، ويريد جلبهم الى العاصمة، ان يكونوا تحت سمعه وبصره خشية من الانقلاب عليه. انتهز محمد علي أوامر السلطان العثماني بتجهيز جيش لإرساله الى الحجاز للقضاء على الحركة الوهابية، لكي يضع حداً للمماليك بشكل نهائي، فدعاهم الى الاحتفال بالقلعة بمناسبة خروج الجيش المصري بقيادة ابنه طوسون الى الحجاز، فلبى حوالي ٥٠٠ مملوك دعوته، إلا أن محمد علي كان "كريماً" معهم، فانتظر حتى نهاية الاحتفال، فقام الجيش الموالي له بحصار القلعة وقتل معظم المماليك في مذبحة شهيرة، وإذ تمكن بعضهم من الهرب فقد أوعز الى ملاحقتهم ويقال إن هناك من قتل، حتى من بين الذين لم يشاركوا في احتفال مذبحة القلعة.

كان ذلك قبل قرنين من الزمن وبالتحديد في الأول من آذار ١٨١١، وبذلك اعتبرت هذه المذبحة، اكبر عملية اغتيال دموي سياسي في تاريخ مصر الحديث، لكنها لم تظل وحيدة في هذا السياق، إذ عمد الرئيس السادات الى تكرار هذه المذبحة، سياسياً ودون إراقة دماء كما فعل محمد علي، وذلك قبل أربعة عقود، عندما تخلص ممن اطلق عليهم مراكز القوى، وهم من كبار قادة ثورة ٢٣ يوليو ورجالات فترة حكم عبد الناصر، ويذكر بهذا الصدد، أن هؤلاء جميعهم دعموا ترشيحه لخلافة عبد الناصر، ظناً منهم - كما تقول بعض الآراء - انه ضعيف وبإمكانهم السيطرة عليه، إلا انه انقلب على حلفاء الأمس في لحظة تاريخية سماها السادات "ثورة التصحيح" بعدما زجهم في السجون والمعتقلات، وطوال العشر سنوات التي حكم فيها مصر، ظل السادات يحتفل بهذه الذكرى كمناسبة قومية، مع أن بعض مفسري التاريخ المصري لتلك الحقبة قالوا ان القضاء على مراكز القوى، كان البداية التي أدت فيما بعد الى عقد صلح ومعاهدة سلام مع اسرائيل بعد زيارته للقدس المحتلة، من دون أن يشكل أحد في مصر معارضة حقيقية لهذه الخطوة.

وقد يرى البعض ان "نكبة البرامكة" على يد هارون الرشيد، إحدى اهم صفحات الاغتيال السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، غير أننا لا نرى إمكانية استنساخها من خلال الحادثتين المشار اليهما سابقاً، لان نكبة البرامكة، كانت نتيجة للصراع العربي - الفارسي، كما أنها اتخذت بعداً مذهبياً، سنياً - شيعياً، بينما مذبحة القلعة في عهد محمد علي، أو تصفية مراكز القوى في عهد السادات، كانت ذات أبعاد مختلفة تماماً، في حين يعيد البعض ثورة تصحيح السادات الى الطريقة التي أبعد فيها جمال عبد الناصر، الرئيس المصري السابق، محمد نجيب عام ١٩٥٤، إلا أن هذه الحادثة ظلت - رغم أهميتها - حادثة فردية وتمت من خلال إجماع مجلس قيادة ثورة يوليو، حسب بعض المصادر التاريخية. هل ما حدث في جمهورية مصر العربية في الأسبوع الماضي، تكرار لوقائع تاريخية أخذت صفة الملهاة أو المأساة، أم هي واقعة تشير الى الجمع بين كلتيهما، ربما تكون الإجابة الآن مبكرة كثيراً بانتظار ما هو قادم والتعرف اكثر على تداعيات عملية إقصاء كبار رجالات الجيش المصري وجمع الرئيس بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وربما يستكمل هذا الاستحواذ من خلال إلغاء المحكمة الدستورية العليا، او تعديل عضويتها بمحازبين إخوانيين ما يسهل للرئيس الاستحواذ عملياً على السلطة القضائية. لعله من الواضح أن خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة التنفيذية هي من بديهيات الدولة المدنية، وهذا ما فعله الرئيس مرسي لدى اتخاذه القرارات المتعلقة بالإطاحة بكبار رجال الجيش المصري، إلا أن الجمع بين السلطة كلها او معظمها بيد الرئيس يتنافى تماماً مع بديهيات مبادئ الدولة المدنية، ولعل التخوف من أن ثورة ٢٥ يناير المصرية، لم تكن في الحساب الأخير سوى استبدال استبداد نظام مبارك بنظام الإخوان، وإذا كان نظام مبارك قد استمر طيلة أربعة عقود قبل أن يقوم الشعب المصري بثورته بالإطاحة به، فهناك تخوف بدأ يتسرب الى بعض المصريين قبل غيرهم، من أن يستمر حكم الجماعة الى وقت طويل قبل أن يثور الشعب المصري من جديد، حتى أن أحد الكتاب المصريين عنون مقالته "محمد مرسي مبارك" في إشارة واضحة الى أن المشهد السياسي يتداخل بشكل سافر بين نظامين يجمعهما الاستبداد، وتفصل بينهم ثورة يبدو أن أصحابها قد تخلوا عنها!

ولا شك ان هناك تأييداً واسعاً لإجراءات الرئيس مرسي، عبرت عنها "الجماعة" بحشود منظمة طوقت القصر الرئاسي دعماً لهذه الخطوة، فيما دعم بعض الكتاب الكبار بتحفظ هذا الإجراء، فيما اعتبرت "الجماعة" أن هذا التأييد دليل على أن الشعب المصري يقف من وراء هذه الخطوة، في تجاهل تام أن المؤيدين هم في غالبيتهم العظمى من أعضاء الجماعة، وإذا كان هناك تأكيد على التأييد الواسع، فيجب أن يكون من عموم الشعب المصري، وتحديداً من خارج الجماعة التي تحكم مصر الآن، ولعل في التظاهرة الشعبية العارمة التي أمت جنازة شهداء عملية العلامة 6 في سيناء، وما انطوت عليه من هجوم شعبي على رئيس حكومة الإخوان، ما يشير إلى أن أغلبية الشعب المصري، ربما لا رأي آخر لها، أغلبية صامتة غير منظمة لكن يمكن ان تتبلور في اللحظة المناسبة، ولعل هذه التظاهرة هي التي أدت الى إسراع مرسي في اتخاذ خطواته التي اعتبرها البعض مفاجئة، مع انها جزء أصيل من عملية الاستحواذ التي تسعى لها الجماعة!!