سيناء: ضرورة تعديل المنظومة الأمنية كلياً
ما يقوم به الجيش المصري في سيناء من فرض لسيطرته في شبه الجزيرة وعلى الحدود مع قطاع غزة بعد العملية الإرهابية الوحشية التي استشهد فيها 16 جندياً يجب أن لا يكون ردة فعل ظرفية بل "انتفاضة سيادية" تؤسس لنظام أمني جديد في سيناء وما حولها. نظام يقوم على مرتكزات تخدم أمن مصر أولاً وقبل كل شيء، وفي نفس الوقت تتفادى التورط في فرض عقاب جماعي على الفلسطينيين عن قصد أو غير قصد. الجريمة التي حدثت، وعلى بدائيتها وغباء منفذيها المدهش، ليست خارج ما هو متوقع. فالبيئة الأمنية الهشة في سيناء مولدة لعملية كهذه ولو لم تحدث اليوم لحدثت مثيلاتها غداً أو بعد غد.
الحل طويل الأمد لا يكمن في إلقاء القبض على مقترفيها، رغم أهمية ذلك بطبيعة الحال، بل في معالجة الجذر المؤسس للاختلال الأمني الكبير في سيناء وتعديله بشكل كلانيّ وجوهري. المشكلة الأساسية في أمن سيناء تعود إلى بنية التوافقات الأمنية التي أقرتها اتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل، وهي البنية التي تكبل يد مصر ولا تتيح لها بسط سيطرتها وسيادتها على سيناء بالكامل.
ولكي تغير مصر من هذه البنية الأمنية التي تنتهك السيادة المصرية وتحقق تبعاً لذلك إحكاماً للسيطرة على ما يحدث في سيناء فإن ذلك يتطلب تغييراً جذرياً في شكل النظام الأمني والسيادي الذي كان سائداً فيها خلال العقود الثلاثة الماضية، وبحيث يعتمد على أسس جديدة. الأساس الأول هو قلب المنظور الأمني الذي قامت عليه اتفاقية كامب ديفيد في سيناء وهو أمن اسرائيل أولاً وتحويله إلى أمن مصر أولاً. فبناء على ذلك المنظور، أي أمن اسرائيل أولاً، قيدت الاتفاقية حركة الجيش المصري في سيناء، وقلصت السيطرة الأمنية فيها الى حد فاضح لا يتجاوز عدة مئات من الجنود وبتجهيزات وأسلحة فردية.
بناء على ذلك المنظور أيضاً حولت سيناء الى محض منطقة عازلة buffer zone وهمشت وكأنها ليست منطقة تابعة فعلياً وسيادياً لمصر. درجة تبعيتها لمصر صارت تحت التبعية الحقيقية بكثير وفوق التبعية الاسمية بقليل. مع مرور العقود كان من الطبيعي أن تتشكل ديموغرافيا بشرية في سيناء قوامها تكتلات قبلية ولاؤها لمصر المركزية يزداد ضعفاً ومتوازياً مع هشاشة السيادة المصرية على سيناء نفسها، وتمردها على السلطة المركزية يغريه ضعف هذه السلطة في سيناء وتواريها.
وبسبب خفوت هذه السلطة ومعه أي حضور عسكري قوي يفرض السيادة السياسية والأمنية، مضافاً إليه فشل إداري وتنموي وسياسي للحقبة المباركية، لم تنشأ تنمية اقتصادية حقيقية في سيناء تستجيب للزيادة السكانية وتعكس وجوداً قوياً للدولة المصرية. وهكذا وفي ظل غياب الدولة وغياب تنميتها وجيشها لم يكن من الغريب أو غير المتوقع أن تتطور علاقة متمردة عند قبائل سيناء أساسها النقمة على القاهرة وسياستها وسياسييها وإهمالهم لجزء من الوطن، وعلى هامش ذلك ترعرعت جيوب التطرف الذي استفادت منه حركات جهادية وإرهابية تداخل وافدها مع مقيمها. جذر ذلك كله، مرة أخرى، هو المنظور الأمني الكلي الذي حرص على إبعاد الجيش المصري والسيادة التامة للدولة عن المنطقة.
الأساس الثاني للمنظور الأمني البديل والمطلوب هو إعادة تعريف سيناء على أنها جزء عضوي من الأرض المصرية وليست "منطقة عازلة" تفصل مصر عن اسرائيل قليلة السكان ومحض صحراء قاحلة لا تستحق العناية والتنمية. في سيناء اليوم ما يقارب من نصف مليون مصري ومساحتها تقريباً ثلاثة أضعاف مساحة اسرائيل المدججة بترسانة أمنية وعسكرية ربما تكون الأولى في العالم نسبة إلى المساحة الجغرافية. كيف أمكن القبول أساساً بمعادلة أمنية في سيناء رغم مساحتها الهائلة تلك وبحيث لا يتواجد فيها سوى بضعة مئات من الجنود؟ لكن وبكل الأحوال وحتى لو فرضنا أن سيناء كانت مجرد صحراء عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد فإن الواقع الحالي وبعد مرور اكثر من ثلاثة عقود على تلك الاتفاقية يقول إنها لم تعد كذلك، وان صلتها ببقية أجزاء القطر المصري يجب أن تتغير جذرياً، واستراتيجياً، وسكانياً، وتنموياً، وأمنياً. الأساس الأمني الثالث للمنظور الجديد هو أن التهديد الاستراتيجي لمصر مصدره دائما وأبداً اسرائيل، وان أي انجرار لموضعة قطاع غزة أو الفلسطينيين كمصدر تهديد للأمن القومي المصري هو هروب من مواجهة الجذر الحقيقي للهشاشة الأمنية للإطار السيادي العام في سيناء.
الدليل المهم في هذا السياق تدركه القيادات المصرية الميدانية التي لاحظت كيف أن حدود سيناء مع قطاع غزة تم الحفاظ عليها من قبل الفلسطينيين ومن قبل حركة حماس خلال شهور الفوضى الأمنية التي أعقبت الثورة المصرية. كان الأمن الفلسطيني في قطاع غزة يزود الجنود المصريين في معبر رفح وعلى مدار أسابيع طويلة بالاحتياجات اليومية من الطعام واحتياجات النوم وسواها انطلاقا من إحساس عميق بالمسؤولية، ولم تسجل خروقات كبيرة على الحدود رغم الارتباك الكبير الذي حصل على امتداد المنطقة الحدودية. والحقيقة أن سلوك "حماس" الأمني وحرصها الاستراتيجي على أمن مصر هو امتداد لوعي فلسطيني عميق وعام تتشارك فيه مع "فتح" ومع كل الأطراف الفلسطينية بلا استثناء، يؤمن بأن مصر وأمنها القومي وقوتها ومصلحتها هي أمور لا مساومة فيها وتقع في صلب المصلحة الفلسطينية ومكملة لها. لذلك واستطراداً على ما سبق يجب القول انه حتى لو جاء المجرمون الذين اقترفوا تلك الجريمة الوحشية ضد الجنود المصريين من قطاع غزة فإن هذا لا يعني الانجرار الى رد فعل غريزي يدفع ثمنه سكان القطاع الذين يعيشون حصاراً منذ أزيد من خمس سنوات.
سياسة العقاب الجماعي سياسة مرفوضة جملة وتفصيلاً وهي سياسة تكاد تكون حصراً على اسرائيل التي دأبت على معاقبة الشعب الفلسطيني كله بدعوى مكافحة الإرهاب. في الجريمة التي سقط ضحيتها أفراد أبرياء من الجيش المصري يجب ملاحقة المذنبين فقط، ومن المفهوم أيضاً بل ومن المفروض سد كل الثغرات التي أمكن للمجرمين استغلالها لكن بحيث لا يزيد ذلك من معاناة ما يقارب من مليونين من الفلسطينيين في قطاع غزة الذين أدانوا الجريمة برمتهم، بل وتبرع واحد منهم بعشرة آلاف دولار لعائلة كل واحد من الضحايا تعبيراً عن عمق الشعور الفلسطيني بالتضامن والإدانة للفعل الجبان.
وهذا يقود الى النقطة التالية وهي أن الأساس الأمني الرابع يتمثل في فتح معبر رفح بشكل نهائي وسيادي ومسؤول في ذات الوقت الذي يتم فيه هدم وإغلاق الأنفاق. ان مئات الأنفاق التي حفرها الفلسطينيون بسبب الحصار تحت ضغط الحاجة وبغية الحفاظ على حياتهم ومعاشهم وتواصلهم مع العالم هي حالة شاذة وغير طبيعية، وناتجة عن العجز الدولي والإقليمي وخاصة عجز نظام مبارك عن إسناد الفلسطينيين بشكل إنساني وفعال. ولأن تلك الأنفاق هي الشريان الحياتي الوحيد لسكان القطاع فقد كانت السر المكشوف الذي يعرفه ويقبل به كل العالم بما في ذلك اسرائيل والولايات المتحدة وبطبيعة الحال مصر. ا
لكل كان يعرف ويقبل إن ينقل الفلسطينيون حليب أطفالهم عبر الإنفاق وتحت الأرض وليس فوقها. استخدمت تلك الأنفاق وبشكل شبه مؤكد من قبل جماعات لها أهداف تدميرية لأمن مصر وامن الفلسطينيين، وما كانت الفرصة ان تتُاح لها لو كانت حركة الفلسطينيين طبيعية فوق الأرض وكباقي البشر. لكل ذلك وبالتوازي مع هدم الأنفاق وإغلاقها يجب على مصر ان تفتح معبر رفح أمام حركة الفلسطينيين وتنهي هذه المهزلة التي يرعاها الجبن العالمي والغطرسة الاسرائيلية. وفتح المعبر يجب ان يتم بمسؤولية عالية أيضاً لا تقود الى فصم قطاع غزة عن بقية الجسد الفلسطيني بما يعزز أوهام البعض بأن القطاع تحرر من الاحتلال الاسرائيلي وبما يعفي اسرائيل من مسؤولياتها أمام القانون الدولي ويحررها من السمة الاحتلالية، ولأن ذلك مرتبط عضوياً بالضفة الغربية واحتلالها وسيطرتها عليها.