جريمة بمواصفات وأهداف إسرائيلية
بعيداً عن التدقيق الشكلي والجوهري في استخدام وتوظيف مصطلح الإرهاب والعمل الإرهابي، فإن ما وقع يوم الأحد الماضي في منطقة الحدود المصرية - الإسرائيلية مع قطاع غزة، هو عمل إرهابي وجريمة بشعة يستحق القائمون بها وعليها ومشجعوها، عقاباً قاسياً ممن يستطيع أن ينزل العقاب بهم. فلسطين والفلسطينيون براء من دم الجنود والضباط المصريين الستة عشر، الذين ذهبوا ضحية تلك الجريمة، التي يتهم فيها فلسطينيون ومصريون، حسب إعلانات متكررة من جهات يفترض أنها مسؤولة. إن هؤلاء ليسوا أيضاً مسلمين، والإسلام منهم براء، حين يرتكبون مجزرة في منتصف شهر رمضان الفضيل بحق جنود وضباط لم يرتكبوا ذنباً ويسهرون على أمن بلدهم.
على أن الحديث عن الإرهاب والإرهابيين في هذه الحالة، لا يمضي إلى توصيف جريمة أخلاقية أو جنائية، بقدر ما أنه يذهب إلى جريمة سياسية أيضاً، حيث لا ينبغي أن يغيب القصد السياسي الأمني، والتخطيط المسبق والمقصود، عن هذا العمل الجبان، الذي يستهدف فلسطين ومصر على حد سواء. لم تعلن، ومن غير المرجح أن تعلن أي جهة مسؤوليتها عن ارتكاب تلك الجريمة، وغياب الإعلان ينفي عن أصحابه ودوافعه قصد المقاومة، كما أنه يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام التكهنات والاتهامات الباطلة وغير الباطلة، ولكن علينا أن نجري حساباً موضوعياً، وعقلانياً، حتى نقترب من الحقيقة التي تؤشر على الفاعل الحقيقي، وصاحب المصلحة في وقوع مثل هذه الجريمة.
ومثلما لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الجريمة، فإن كل الأطراف ذات العلاقة، وغير ذات العلاقة، قد أعلنت إدانتها واستنكارها الشديد، الأمر الذي يزيد من حالة الإرباك، لدى أصحاب العقول المشوشة، والذين يتسترون على الفاعل رغم معرفتهم به. رغم كل ما يقال ويتسرب عبر وسائل الإعلام، سواء من تصريحات رسمية، أو من قبل أناس يدّعون أنهم شهود عيان، على دور للفلسطينيين سواء بالقصف المتزامن من قطاع غزة، أو بتسرب عناصر عبر الأنفاق، أو مشاركة عناصر فلسطينية، فإن كل هذه المعطيات قد لا تصلح لتوحيد الاتهام للفلسطينيين.
الفلسطينيون لحقت بهم أضرار بليغة جراء الزج باسمهم في الجريمة، فقد تم إغلاق معبر رفح لأجل غير مسمى، الأمر الذي يخلق أزمة بل أزمات لآلاف إن لم يكن عشرات آلاف المواطنين الذين ينتظرون بفارغ الصبر الالتحاق بجامعاتهم، وأعمالهم، ووظائفهم، ومستشفياتهم للعلاج، كما أدت العملية الإجرامية إلى إغلاق الأنفاق بين الجانبين المصري والفلسطيني، مما يعني وقف تدفق البضائع والحركة عبر هذه الأنفاق التي لا تزال تشكل الشريان الأساسي الذي يمد سكان القطاع باحتياجاتهم في ضوء الحصار الإسرائيلي. والفلسطينيون متضررون جداً في سمعتهم وعلاقاتهم بأشقائهم المصريين، مما يضيف عليهم أعباءً كبيرة فوق ما يتكبدونه نتيجة حالة الاستقطاب الشديد في الشارع المصري السياسي وغير السياسي بين الإسلاميين وغيرهم والذي أخذ ينسحب باستقطاب مماثل على الفلسطينيين.
والفلسطينيون متضررون، لأن إلصاق التهمة بهم، يقدم لإسرائيل مبرراً لمواصلة الحصار على القطاع وتعميق الانقسام، وتجد فيه إسرائيل مبرراً للتغطية على عدواناتها الوحشية التي ترتكبها بحق الفلسطينيين خصوصاً في قطاع غزة. إذا كانت هذه الجريمة تجر على الفلسطينيين كل هذه الويلات، وأكثر منها، فمن هو يا ترى صاحب المصلحة في مثل هذه العمليات الإرهابية المجرمة؟ لقد بات واضحاً أن العملية الإجرامية لم تكن موجهة ضد الإسرائيليين، حتى لو أن مرتكبيها، امتطوا دبابة وتوجهوا بها إلى داخل الحدود الإسرائيلية.
فالمجانين فقط هم من يعتقدون أن مثل هذه العملية، وبهذا التخطيط يمكن أن تنجح في أسر جنود إسرائيليين أو إلحاق خسائر تستحق مثل هذه المغامرة، في الطرف الإسرائيلي. الكل يعلم أن الحسابات السياسية، والمخططات المعادية لا تقيم حساباً لا للإخلاق ولا للقانون ولا لحياة الناس مهما كان انتماؤهم أو جنسهم، ولذلك فإن من قام بالجريمة ومن خطط لها، لم يكن ليتخلى عن مخططاته، بسبب نوع الضحايا أو عددهم أو جنسيتهم. تقول جريدة "معاريف" الإسرائيلية: إن الدوائر الأمنية الإسرائيلية حصلت على معلومات مسبقة بالعملية قبل وقوعها، والسؤال هو لماذا لم تتحرك الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لإفشال العملية قبل وقوعها، كما تفعل في العادة؟ ولماذا لم تبادر إسرائيل إلى تحذير المصريين بنوايا الفاعلين، قبل وقوع العملية، حتى يبادروا إلى إفشالها، أو تحذير الجهة المسؤولة في قطاع غزة، حتى تقوم بمسؤوليتها إزاء الفاعلين؟ إن الحديث يدور عن خمسة وثلاثين عنصراً، فكيف لهؤلاء أن يتحركوا ويوفروا العوامل اللوجستية التي تمكنهم من الوصول إلى مكان وهدف العملية، وأن ينفذوا مخططاتهم الإجرامية بهذه البساطة والسهولة؟
إن لم تكن عيون المصريين مفتوحة، فإن عيون وآذان الإسرائيليين مفتوحة على اتساعها لحظة بلحظة، فلماذا لم يبادروا لمواجهة المجموعة في الفترة الزمنية بين الاشتباك مع الجنود المصريين، وبين انتقالهم بالدبابة إلى داخل الحدود الإسرائيلية؟ أسئلة كثيرة تثير الشك في السلوك الإسرائيلي، ومن بينها سؤال يتعلق بحجم ونوع الاهتمام الإسرائيلي بالعملية، حيث يصل إلى مكان وقوعها، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه ايهود براك، ورئيس أركان الجيش بيني غانتس.
إن مثل هذا الاهتمام السريع لا يقع إلا في حالات استثنائية وعندما يتكبد الإسرائيليون خسائر مهمة، أم أن هذا الحضور هو جزء من مخطط التضليل الذي يتعمد إبعاد التهمة عن إسرائيل؟ وفي الواقع، فإن هذه الجريمة ليست الأولى التي تتعمد إسرائيل اتهام الفلسطينيين بارتكابها، فلقد جرت مجموعة من العمليات، من بينها قصف بالصواريخ على إيلات، وعبر الحدود المصرية - الإسرائيلية، بعضها وهمي وبعضها حقيقي، وفي كل مرة سارعت إسرائيل لإلقاء التهمة على الفلسطينيين في قطاع غزة. إن من يتتبع بوصلة السياسة الاستراتيجية الإسرائيلية منذ بضع سنوات، يدرك أن كل ما تقوم به ضد قطاع غزة، إنما يرمي إلى عزل القطاع وفصله عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتأبيد الانقسام ودفع القطاع باتجاه مصر، حتى يعتمد في كل احتياجاته عليها في الأمد المنظور.
أما في الأمد البعيد، فإن إسرائيل تكرس نشاطاتها في سيناء باتجاه إحياء مشروع التوطين للفلسطينيين، تحت ضغط الحاجة لتوسيع القطاع، وهو مشروع تحدث عنه ايغور ايلاند مؤخراً، ويذكرنا بمشروع التوطين الذي أفشله الفلسطينيون في أواسط خمسينيات القرن الماضي، وكانت سيناء هي الموقع الجغرافي المرشح لتنفيذه. تحت وطأة الفلتان الأمني في سيناء، الذي تلعب فيه إسرائيل دوراً مهماً ونشطاً، تسعى تل أبيب لاختبار إمكانية تعزيز التعاون الأمني مع مصر، وتساعدها في ذلك الولايات المتحدة التي بادرت فور وقوع الجريمة لعرض خدماتها للمساعدة.
أما على صعيد قطاع غزة، فإن الاحتمال المرجح هو أن تقوم إسرائيل بعملية عسكرية واسعة ضد القطاع، تحت عنوان محاربة الإرهاب، بما يؤدي إلى تفاقم أزماته الإنسانية، وربما تقدم على إغلاق المعبر الوحيد الموجود معبر كرم أبو سالم، أو تشدد من حصارها، بحيث تضطر مصر تحت دواعي الأخوة والإنسانية إلى فتح معبر رفح، وإلى الموافقة على فتح معبر تجاري مع القطاع، بديلاً عن الأنفاق التي تتوافر من خلالها إمكانية لتهريب الأسلحة والذخائر كما يحلو لإسرائيل أن تدعي.
في مثل هذه الحالة، فإن إسرائيل تكون قد أقفلت على الفلسطينيين إمكانيات المصالحة واستعادة الوحدة، وتكون قد دفعت قطاع غزة أكثر في اتجاه مصر، وبذلك تكون أكملت الفصل الأول من خطتها التي بدأتها بإعادة الانتشار في قطاع غزة في أيلول 2005، والذي يقود إلى تخليها الكامل عن مسؤولياتها كدولة احتلال عن القطاع، وبذلك تكون أيضاً قد دفنت فكرة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة منذ العام 1967.إذا كانت هذه هي وجهة المخططات والإستراتيجيات الإسرائيلية فإنه لا يتضح حتى الآن، ماهية المخططات والإستراتيجيات الفلسطينية، إن كان لجهة مجابهة المخططات الإسرائيلية، أو لجهة التساوق معها ولو بدوافع أخرى.