كشف حساب ... ورؤية مستقبليّة حول التدويل
القرار الإسرائيلي بمنع دخول وزراء خارجية أربع دول من الوصول إلى رام الله، يعكس صلف الاحتلال واستهتاره بالسلطة وبحركة عدم الانحيار والمجتمع الدولي برمته. فهذا القرار يُذكّر الجميع بأن فلسطين محتلّة، وأن السلطة الفلسطينية لا يمكن أن تتحول إلى دولة ذات سيادة أو أن تمارس السيادة من دون إزالة الاحتلال، وإزالة الاحتلال تتطلب اعتماد مسار سياسي جديد بديلًا عن مسار المفاوضات الثنائية، على أساس أوسلو وبرعاية أميركية انفرادية ولعب اللجنة الرباعية دور شاهد الزور. في هذا السياق، يكتسب قرار القيادة الفلسطينية بالتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لنيل "العضوية المراقبة" أهمية خاصة بالرغم من إعلان صائب عريقات ورياض المالكي بأنّ الطلب الفلسطيني سيقدم في 27 أيلول المقبل، ولكن توقيت الإجراءات العمليّة للتصويت لم يقرر بعد، وبانتظار اجتماع تعقده لجنة المتابعة العربيّة في أوائل شهر أيلول المقبل.
من يتابع التصريحات والتحليلات والوثائق الفلسطينيّة يرى نوعًا من التردد والارتباك في اعتماد المسار الدولي ينبع من الصراع بين الرغبة باتخاذ مبادرة تهدف إلى وقف تهميش القضيّة الفلسطينيّة، والخشية من عواقبها السياسيّة والاقتصاديّة والديبلوماسيّة. ويظهر هذا التردد في إقرار التوجه، والدعوة في نفس الوقت لدراسته وجس نبض الدول والمجموعات الإقليميّة والدوليّة، وكأنّ الأمر لم يُشبع دراسة منذ عام 2009 وحتى الآن، لدرجة أن القرار اتُخذ في العام الماضي باعتبار شهر أيلول منه سقفًا زمنيًّا نهائيًا لتنفيذه، بدليل تقديم الطلب الفلسطيني للحصول على العضويّة الكاملة في مجلس الأمن بعد إلقاء الخطاب التاريخي للرئيس "أبو مازن".
ويظهر هذا التردد أيضًا في استمرار اللقاءات الفلسطينيّة - الإسرائيليّة (عريقات - مولخو) والجهودالعربيّة والدوليّة الرامية إلى استئناف المفاوضات، وفي ظهور رأي يبدو أنّ القيادة الفلسطينية تميل إلى اتخاذه ينحو نحو تأجيل طلب التصويت على "الدولة المراقبة" من بداية دورة الأمم المتحدة في أيلول المقبل إلى نهايتها، وتحديدًا في 29 تشرين الثاني المقبل الذي يصادف يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني. والحجة التي تقف وراء هذا التأجيل أن الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة ستعقد في الرابع من تشرين الثاني المقبل، ومن المفضل عدم الاصطدام مع الإدارة الأميركيّة قبل نهاية هذه الانتخابات، لأن من شأن ذلك أن يدفع الرئيس باراك أوباما لاتخاذ العقوبات ضد الفلسطينيين لزيادة فرص فوزه بالانتخابات. هذا المنطق إذا مدّ على استقامته سيقود إلى تأجيل آخر بحجة أنه في حال فوز أوباما سيكون من المجدي إعطاؤه فرصة جديدة وأخيرة، على أساس أن الرئيس الأميركي في فترته الثانية يكون أقل خضوعًا للضغوط الإسرائيليّة ومجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل.
ما يعزز هذاالاحتمال تسريبات بأن أوباما قدم وعدًا بأنه سيسعى في حاله انتخابه مرة أخرى إلى تحقيق ما فشل في تحقيقه في فترة رئاسته الأولى، أي التوصل إلى تسوية نهائيّة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وفي حال فوز ميت رومني هناك رهان خاسر على أن أوباما يمكن أن يعطي في الفترة الفاصلة بين إجراء الانتخابات وتسليم الحكم كل أو جزء مما لم يعطه للفلسطينيين أثناء رئاسته. لا أستخف ولا أدعو أحدًا للاستخفاف بخطوة التوجه إلى الأمم المتحدة، ولكن هذا لا يبرر على الإطلاق التردد والحالة الانتظاريّة التي تمر بها القيادة الفلسطينيّة، والتي ستؤدي إما إلا عدم التوجه أصلًا للأمم المتحدة، أو إلى اتخاذ خطوات وعدم استكمالها كما حدث طوال العام الماضي والعام الحالي، بدليل ما حصل في تقديم الطلب للعضويّة الكاملة وعدم المطالبة بالتصويت عليه بحجة عدم الحصول على الأصوات التسعة المطلوبة، بالرغم من أن هذا التقدير كان معروفًا قبل تقديم الطلب، وهناك من طالب بالتوجه إلى الجمعية العامة ولم يتم الأخذ بذلك، ولا بالتوجه إلى مجلس الأمن ولا الجمعيّة العامة في الوقت نفسه، بالرغم من وجود دعوات من الكثير من الدول، ومن ضمنها الأوروبيّة بدعم التوجه إلى الجمعية العامة. لقد كان خطاب الرئيس التاريخي في الأمم المتحدة وتقديم الطلب إلى مجلس الأمن نهاية التوجه، بدلًا من أن يكون بداية له، ولا يغير من هذه الحقيقة حدوثبعض الإنجازات الهامة المعاكسة، التي تجلّت بشكل واضح في الحصول على العضويّة الكاملة لدولة فلسطين في اليونسكو.
إذا أردنا تفسير السياسة الفلسطينيّة، سنجد أنها لا تستطيع في وضعها الراهن، خصوصًا في ظل وصول خياراتها إلى طريق مسدود وعدم القناعة بجدوى مسارات جديدة، والانقسام المدمر، بالرغم من تهديدها بالتوجه إلى الأمم المتحدة، ومع إقدامها على بعض الخطوات العمليّة؛أن تتخذ خطوات نوعية، لذا لا تزال تراهن على استئناف المفاوضات، وتستخدم التهديد باللجوء إلى الأمم المتحدة، مثله مثل التهديد بالمصالحة والمقاومة الشعبيّة، كتكتيك للضغط لإنجاح جهودها لاستئناف المفاوضات، وهذا بالضبط هو نقطة الضعف القاتلة لهذا التوجه التي تهدد بأوخم العواقب، وتجعل المطالبين باستئناف المفاوضات على علّاتها لديهم بعض الوجاهة والتأثير. أهميّة التوجه إلى الأمم المتحدة هو أن يكون جزءًا من إستراتيجيّة جديدة شاملة، تقوم على نقل القضيّة الفلسطينيّة بمختلف جوانبها، وليس فقط الدولة الفلسطينية، إلى الأمم المتحدة ومنظماتها المعنيّة؛ للعمل على تنفيذ القرارت الدوليّة ذات الصلة، بحيث يكون ذلك بديلًا عن المفاوضات الثنائيّة العبثيّة التي اعتمدت خلال السنوات العشرين الماضية، ولم تؤد إلا إلى تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وأسرلة وتهويد القدس، وتقطيع الأوصال، والجدار، والحصار، والانقسام، وتهميش القضيّة الفلسطينيّة، كما لم يحدث من قبل.
إذا لم تتوفر القناعة العميقة لدى القيادة الفلسطينيّة بعقم خيار المفاوضات الثنائيّة سابقًا ولاحقًا، لأن التطورات المتوقعة على صعيد إسرائيل والمنطقة العربية والعالم كله لا تُبَشِّر بوجود فرصة لاستئناف مفاوضات قادرة على التوصل إلى حل، وبأهمية المسار الدولي البديل لا يمكن أن يسفر التوجه إلى الأمم المتحدة كتكتيك أو باعتباره مكملًا لخيار المفاوضات سوى إلى إضاعة المزيد من الوقت، الذي سيؤدي إلى المزيد من تآكل القضيّة الفلسطينيّة. وإذا سلمنا جدلًا أن القيادة الفلسطينيّة بوعي أو من دونه، بمبادرة أو كرد فعل، قامت بتطبيق تهديداتها، وذهبت إلى الأمم المتحدة، وحصلت على العضويّة المراقبة، فإنها ستواجه بسلسلة من العقوبات الأميركيّة والإسرائيليّة التي لا تقتصر على وقف المساعدات وتحويل العائدات وإغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وإنما قد تصل إلى ضم الأغوار والمستوطنات الكبرى في الضفة الغربيّة واستمرار إسرائيل بمعدلات أكبر بتطبيق خطوات أحاديّة تهدف إلى فرض الحل الإسرائيلي من طرف واحد. والأخطر أن تؤدي هذه الخطوة إلى فقدان الدور السياسي للمنظمة وللفلسطينيين، الذي لا يمكن تعويضه، في حين أن العقوبات المالية يمكن الاستعاضة عنها.
إذا ذهبت القيادة إلى الأمم المتحدة دون إستراتيجية بديلة قادرة على توحيد الشعب والقوى الفلسطينية على أساس وطني ديمقراطي يمكن أن تجد نفسها بعد العقوبات المتوقعة على حافة الانهيار، ما سيجعلها إما أن تعود القهقرى إلى المفاوضات العقيمة خشية من حدوث الأسوأ، أو أن يحدث الأسوأ الذي طالما حذرت منه وخشيت حدوثه،الذي يتمثل في الفوضى والفلتان الأمني وتهميش القضية من دون مشروع وطني ولا مؤسسة وطنية واحدة جامعة ولا التفاف شعبي. إن التوجه إلى الأمم المتحدة مثله مثل التوجه نحو المصالحة والمقاومة الشعبية يعني مجابهة آثارها لا تنحصر بالقضية الفلسطينية، وإنما تمس بمساعي الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية لإبقاء المنطقة تحت النفوذ والسيطرة بالرغم من التغييراتالعاصفة التي تشهدها، لذلك إذا أردات القيادة الفلسطينية تغيير المسار فعليها أن تستعد للمجابهة بتوفير مقومات الصمود والانتصار فيها. وإذا أرادت القيادة التوجه إلى الأمم المتحدة من دون مجابهة، فعليها أن تنتظر مثلما تفعل حتى الآن، أو تستجيب للشروط الأميركية الإسرائيلية، وتقلع نهائيًا عن تهديداتها باللجوء إلى الأمم المتحدة وأي خيارات أخرى، لأن التهديدات من دون استعداد للمجابهة ستكون لفظيّة، وستؤدي إلى تراجع ذليل، مثلما حدث مع سحب التهديدات باستقالة الرئيس وحل السلطة، بالادعاء أنها خيارات لم تكن مطروحة أصلًا، بالرغم من التلويح بها على كافة المستويات الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة.
إذا كان هناك عدم اقتناع بجدوى المجابهة في مرحلة التغيرات العربيّة والدوليّة، وفي ظل تهميش القضيّة، فلتصارح القيادة الشعب بذلك، مع أن المجابهة مطلوبة وضرورية ولا مفر منها على أن تأتي بشكل مدروس وكانت جزءًا من إستراتيجيّة شاملة جديدة وبديلة، هي طريق الخلاص حتى إن طبقت على مراحل، شرط توفر الإرادة والرؤية والاستعداد لتوفير القدرة اللازمة لتحقيق الحقوق الوطنية مهما طال الوقت وغلت التضحيات.