الفلسطينيون محصنون من عدوى الثورات العربية

في الوقت الذي اجتاحت المنطقة العربية الاحتجاجات من أجل تغيير الواقع المتردي الذي تعيشه منذ عقود، ظهرت الأراضي الفلسطينية وكأنها خارج هذه الحراك الثوري الديمقراطي. وعندما تأثرت، انعكس ذلك بشعار «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، لكنه شعار يعترض على مفهوم ولا يعبر عن مطالب محددة قابلة للتحقيق. لأن قضية «إنهاء الانقسام» لم تكن بيد المطالبين بها، بل بيد القوى السياسية التي تقبض على السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكل واحدة منها تستطيع أن ترمي المسؤولية على الطرف الآخر.

صحيح أن الشباب الفلسطيني تحرّك تحت هذا الشعار وهناك من تعرض للقمع، لكن أي من السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة لم تقل أنها ضد الشعار الذي رفعته الحركة الشبابية، وبذلك سرعان ما فقدت الحركة زخمها وتعرضت سريعاً للاحتواء، أو تم افقداها المعنى، لأن الطرفين المسؤولين عن الانقسام ظهرا وكأنهما جزء من الحراك الشبابي لإنهاء الانقسام في الوقت الذي يتحملان مسؤوليته، وقاما بتوقيع مصالحة لم تغير أي شيء فعلياً في واقع الانقسام. بذلك لم يعد أحد يفهم ما الذي يجري، فقد تم إفقاد الحركة معناها، وتفريغها من المضمون، حتى قبل أن يتم توقيع المصالحة في القاهرة بين الطرفين. أعتقد أنه من السذاجة اعتبار المصالحة الفلسطينية التي تم التوقيع عليها بين الطرفين انجازاً للتحرك الشبابي المحدود الذي شهدته الأراضي الفلسطينية. فقد دفعت تغيرات وعوامل إقليمية إلى هذه المصالحة، أبرزها التغيّر الذي حدث في مصر والأوضاع التي تعيشها سوريا.

رغم ايجابية المصالحة، فإنها لم تعيد الوضع الفلسطيني إلى ما قبل الانقسام، وحتى ذلك الوضع لم يكن وضعاً مثالياً، فقد كانت حالة الشلل هي التي تعيشها الأوضاع الداخلية الفلسطينية لمن يملك ذاكرة، ولا أعتقد أن الانتقال من انقسام معلن إلى انقسام واقعي يحل المشكلة الفلسطينية. إن المشكلة ليست في الانقسام فحسب، بل في الأداء السياسي للقوى التي أوصلت الساحة الفلسطينية إلى الانقسام أيضاً، فالأيادي التي تتصافح هي ذاتها الأيادي التي أسالت الدم الفلسطيني. بذلك على مستوى الاستحقاق الوطني باتت القوى الفلسطينية الممسكة بالساحة الفلسطينية عقبة أمام فتح أفق أمام القضية الفلسطينية.

رغم الحاجة الملّحة للتغيير في الساحة الفلسطينية، وبفعل عوامل التأثير للثورات العربية، وبفعل الحاجة الضرورية لضخ دماء جديدة في الشرايين الفلسطينية المتيبسة، يبدو الوضع الفلسطيني، وضعاً خاصاً غير قابل للتأثر بتسونامي الذي يجتاح المنطقة، ويظهر كأنه عصيّ على التغيير. المرحلة التاريخية التي تمر بها التجربة الفلسطينية وتنوع المرجعيات والسلطات في الواقع السياسي الفلسطيني، هو ما يفسر الواقع الفلسطيني الخاص والذي يبدو أنه يعيش خارج موجة التحرر العربية الحالية. هناك سلطات فقدت مشروعيتها وانتهت مدتها ما زالت الأطراف تتمسك بها، مثل المشروعية الانتخابية التي انتهت مدتها الزمنية، سواء مشروعية المجلس التشريعي، أو مشروعية الرئاسة. إن فترة ولاية المجلس التشريعي قد انتهت منذ زمن، وهذا ينطبق على الرئاسة.

رغم ذلك، هناك وزارتان واحدة في الضفة الغربية تستند إلى مشروعية الرئيس المنتهية ولايته، وأخرى في قطاع غزة تستند إلى مشروعية المجلس التشريعي المنتهية ولايته أيضاً. لكن المشروعية الانتخابية ليست المشروعية الوحيدة من وجهة نظر السلطتين. هناك سلطة رام الله التي ما زالت تستند في مشروعيتها على منظمة التحرير التي ما زالت تُعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي إطار تتحكم به حركة فتح، والتي تم استدعاءها من غياب طويل بعد التشكيك في شرعية السلطة الفلسطينية في رام الله. وإذا كانت منظمة التحرير إطار يضم مجموعة من الفصائل، فإن حركة حماس لا تعترف بالإطار التمثلي للمنظمة، لأنه ـ حسب حماس ـ افتقد إلى الوطنية بعد توقيع قادتها اتفاقات أوسلو، وبالتالي هي تستند إلى مرجعية وطنية من دورها كحركة مقاومة لها ائتلاف وطني معارض لاتفاقات أوسلو والسلطة التي انبثقت عنها. ا

لمشكلة الأعقد في الإطار الفلسطيني، هو أن السلطتين الفلسطينيتين حتى لو تم توحيدهما في إطار اتفاق المصالحة، ليستا سلطتين فعليتين، هما سلطتان في ظل الاحتلال، ولا ترقيان لمكانة الدولة الاستبدادية أو غير الاستبدادية، والأهم من ذلك، إنهما سلطتان ليستا مستقلتين لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى المالي، وبالتالي يقع الوضع الفلسطيني في خانة، ليس لها توصيف في علم السياسة، سوى بوصفها مرحلة انتقالية استطالت وتشظت دون أن تنتقل إلى شيء واضح في علم السياسة.

فحتى لو خلصت كل النوايا من أجل تحقيق المصالحة، هناك الكثير من العقبات التي يمكن أن يثيرها الآخرون لعدم الوصول إلى تطبيق اتفاق المصالحة بين حركتي حماس وفتح، وعلى رأس هذه العقبات، الانتخابات الفلسطينية التي لا يمكن أن تتم بدون موافقة إسرائيلية. في جميع الحالات، فإن التجربة الفلسطينية ما زالت تعيش مهمات على إيقاع موجة التحرر الأولى، التحرر من الاستعمار، التي أنجزتها الدول العربية قبل نصف قرن والتي أصبحت بموجبها سلطات لها سيادة على دولها، وهي تعيش اليوم الموجة الثانية من التحرر، التحرر من الاستبداد، في الوقت الذي ما زالت التجربة الفلسطينية تتخبط في موجة التحرر الأولى ساعية إلى التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي تربع على قيادتها نخبة سياسية تجاوزها الزمن وباتت مثيلاتها من الماضي في ثورات العالم العربي.