رمضان والفن وثورة 23 يوليو

رمضان والفن وثورة 23 يوليو تحسين يقين سألني الأستاذ غازي فخري: ماذا ستكتب هذا العام عن ثورة 23 يوليو؟

- لا أدري، فلست معتادا أن ألزم نفسي في الكتابة عن المناسبات، فقد أكتب إذا ما جدّ جديد يمكن ربطه بالمناسبة، أو فكرة جديدة تستحق التنوير عليها من خلال استخدام المناسبة.

ما الذي تثيره فيّ ثورة يوليو؟ إلى ثورة يناير؟ إلى نتائج الانتخابات؟ إلى العلاقة القومية والعلاقات الدولية؟ أم لعلها تعيدني إلى مصر صاحبة أكبر قدر من الذكريات والاكتشافات ومغامرات الفتيان والشباب على ضفتي النيل والترع والدلتا وشط إسكندرية شط الهوى؟ والسائل هو من الذين عاشوا ثورة يوليو بكافة تفاصيلها، في فلسطين وفيما بعد في مصر حيث تلقى تعليمه الجامعي ثم انضمامه لمنظمة التحرير، فمديرا للمجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم والمستشار الثقافي في سفارتنا هناك، فقلبه وعقله عروبيان، لمصر فيهما نصيب كبير.

- .....................؟

-لعلي أبحث إذن عن فكرة أكثر منها عن حدث سياسي..

وشرد ذهني نحو سيدنا الحسين في القاهرة، حينما كنت نتناول السحور هناك، وإلى موائدنا وكيف كنا ننسقها، وزياراتنا للأسواق قبل الإفطار، وكيف يجعل المصريون من رمضان عيدا على مدار الشهر، وإلى متابعتنا اليومية لفوازير ومسلسلات رمضان، وماذا سيحدث للبدري ونازك السلحدار في ليالي الحلمية.. وماذا سيحدث مع رأفت الهجان، وماذا ستفعل فاتن حمامة في ضمير أبله حكمت....

وأخيرا قلت وجدتها!

سأكتب عن رمضان والفن، ومنه سأعبر نحو مصر، وثورة يوليو، وازدهار الثقافة والفنون.. وهكذا يمكن أن أبدأ بالمقال، وربما لا يظل الكثير لأقوله، إلا إذا رغب القراء بالتفصيل.. ما العلاقة؟

يقودنا الحديث عن رمضان والفنون، إلى تذكر العلاقة التي وجدت مع الدعوة الإسلامية الجديدة وكيف تم توظيف الشعر ديوان العرب في هذه الدعوة، وكيف امتد الشعر عبر عصور الحضارة العربية الإسلامية إلى تفاصيل تلك الحضارة بجانبيها الروحي والمادي. وكيف وجد رمضان طريقه إلى الشعر من القدم حتى الآن..

العلاقة بين رمضان والفن الشعري تأتي في سياق العلاقة بين الدين والفن قديما وحديثا، فقد استخدمت الأديان الفنون كوسيلة تخاطب جماهيري للوصول إلى الناس، كونها وسيلة جذب، في الوقت نفسه كان الدين ولم يزل في ثقافات كثيرة موضوعا من مواضيع الفنون، وإن كان في بعض الأديان يعتبر التفكير فيه من المحرمات كمحرم الجنس والسياسة، إلا إذا كرر الفنان مقولات واجتهادات رجال الدين.

والعلاقة بين رمضان والفن تتجاوز الموضوع الدعوي إلى ما يصب في عمق الثقافة الشعبية في المجتمعات العربية والإسلامية. كيف؟ الجواب أن الصيام هو أمر ديني وثقافي قديم في حياتنا، وقد عبرت الآية الكريمة "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" عن هذا المفهوم، بمعنى أن الثقافة تحمل هذه البذور، ومعروف أن الأديان مكون أساسي في الثقافة.

سيكولوجيا واجتماعيا، إن صوم الإنسان من الفجر إلى المغرب يخلق ظروفا جديدة وعادات جديدة، فكيف سمضي الصائمون نهاراتهم ومساءاتهم؟ فإذا نام الصائم نهارا فماذا سيفعل في ساعات الليل حيث الطعام والشراب والسهر؟

كيف يمر نهار الصائم وليله خصوصا في بلاد ذات أجواء حارة كمصر مثلا؟ وفي بلد كبير من حيث حجم السكان كالقاهرة المحروسة؟

من واقع كون الفنون من وسائل الاتصال الجماهيري، نشطت في مصر المحروسة فنون شعبية يمكن الرجوع إليها، وهي ذات طابع جذاب تعتمد الحكواتي تمثيلا وليس رواية، فانتشر العديد من الشخصيات الشعبية لتمثيل ما يمكن أن يكون كالاستكشات المسرحية اليوم، ومنها ما كان يصاحبها الغناء، والكوميديا كانت حاضرة للتخفيف عن الناس، كما انتشرت الموسيقى والغناء، فكان أهل المحروسة يتسلون بهذه الفنون والألعاب الشعبية، مثلهم مثل باقي الحواضر الإسلامية، وقد كان ذلك ينسجم مع النشاطات الدينية الأخرى، ولم تكن تتناقض معها، ولم يكون الفقهاء ينكرونها ولا يعيبونها، كما يفهم رجال الدين اليوم في أكثرهم، والذين ينكرون الفنون، ويعيبون متابعتها، ويودون الاقتصار فقط على النشاطات الروحية.

- وما علاقة ذلك بثورة يوليو يا صاح؟ -

انتظر قليلا..

وبالطبع دار الزمان وتطورت وسائله، وصولا إلى التكنولوجيا، فكانت الصحافة وسيلة اتصال عظيمة، ثم كانت الإذاعة عجيبة العجائب، ثم كان التلفزيون..

والتلفزيون بشكل خاص ظهر عربيا في مصر، وسمي التلفزيون المصري بالتلفزيون العربي احتراما للعرب، ومع انتشار اقتناء التلفاز في ظل وجود بعض الوفرة المالية، ما بعد الاستعمار الأجنبي بدءا من الستينيات حتى الآن، فما زال التلفزيون ملك وسائل الاتصال الجماهيري، بل إننا عربيا نقضي ساعات كبيرة أمامه، وكنا نود لو اقتطعنا جزءا منها للقراءة..

ولم تكد الإذاعة والتلفزيون فيما بعد يبثان، حتى فطن القائمون عليها إلى أهمية الإنتاجات الفنية المخصصة لشهر رمضان، وبشكل خاص في التلفزيون؛ فوجود أكبر قدر من المشاهدين معا على مائدة إفطار واحدة، يجتمع فيها أفراد الأسرة طوال هذا الشهر، كان دافعا لتخصيص وقت كبير للاحتفاء برمضان فنيا.

ومع تكرار المناسبة، وزيادة المشاهدين في مصر والعالم العربي، حدثت انطلاقة كبيرة للبث التلفزيوني في مصر والعالم العربي دولة بعد أخرى، ولم تكن انطلاقة الفنون والثقافة ضمن وسائل الإعلام خصوصا التلفزيون أن تتم لولا الازدهار الثقافي والفني الذي واكب ثورة يوليو، صار التلفزيون مصدرا أساسيا من مصادر المعرفة والفن والتلسية والمتعة، حيث راحت التلفزيونات والإذاعات العربية تبث الإنتاجات الفنية التي تألقت في طوابق ماسبيرو في القاهرة، وكلنا نتذكر قطاع الإنتاج في اتحاد الإذاعة والتلفزيون كيف متّع ونوّر ملايين العرب. لقد تم بث رسائل وطنية وقومية.

وتم بث أعمال فنية سعت نحو التغيير الاجتماعي للمجتمع العربي في مصر والعالم العربي. لم تكن المتعة الفنية منقطعة عن التنوير الثقافي والاجتماعي إذن، ولم يكن ذلك قادما من فراغ، بل كان قادما من أثر ثورة يوليو التي امتدت إلى جميع مجالات الحياة والمجتمع. بل إن الكثير من التطورات الإيجابية في السياسة والثقافة عربيا تدين لثورة يوليو بها.

ولعلنا بشكل خاص ننوه إلى دور مسلسلات الميلودراما في الوصول إلى الجماهير لما تتمتع به من قدرات تجذب المشاهدين. ومن لا يذكر مثلا السيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة كواحد من كتاب السيناريو العرب الذين أثروا حياتنا الثقافية، حيث متعنا الراحل ونورنا معا..لقد ثقفنا ككاتب فكان كتبا بحدّ ذاته، وثقافة وفنا نبيلا راقيا.. ولم يكن ليحدث ذلك لولا يوليو التي نهل منها عكاشة..

وأظن الرسائل واضحة:

الفن لا يتناقض مع الفن، والعروبة والقومية لا تتناقضان مع الدين، والثورة إن لم تصل إلى جوانب الحياة لتنهض بالمواطنين فهي مجرد تغير في الحكام..وتلك مصر التي أحببنها، وتلك التي قادت الفعل الثقافي والفني حين أرادت أن تفعل ذلك، في الساسة كما الثقافة.

ولأمسياتنا الرمضانية مع الخال غازي أن تطول، ليأخذنا إلى مصر التي عرفها، وعرفناها، والتي نرغب دوما أن تكون..

ولرمضان أن يحضر فينا وبيننا لتحضر معه العبادة وليحضر معه الفن والشعور الوطني والقومي والإنساني، وليحضر الطعام والشراب فهما ثقافة أيضا وسرور وبهجة..

ولرمضان أن يثير فينا الشعور الواحد، الذي يذكرنا دوما بوحدتنا المنشودة..وللفن أن يأخذ دوره في هذا كله..ولثورة يوليو أن تستمر في عقولنا وقلوبنا، خصوصا أن مبرراتها للأسف ما زالت قائمة..ولعل الإسلام السياسي أن يأخذ عظة من التاريخ فلا يكررن نفسه مبتعدا عن الحياة والمجتمع..فأمامه في مصر المحروسة اليوم فرصة ليعيد النظر في أساليبه ورؤاه، وأن ينشد الرقي بالمجتمع وتنميته وتحرره..

Ytahseen2001@yahoo.com