الشعوب العربية تستعيد لغتها المسروقة

اللغة كائن الحي، إذا أخرجتها من شروطها وأفقدتها وظيفتها الدلالية، تتحول إلى جثة هامدة، تتواجد في المجتمعات الإنسانية، لكنها تفقد روحها، ويتم لي عنق الكلمات لتعبر عن وقائع ليست بكلماتها المناسبة، يتم تصور الوقائع بكلمات، لا تؤدي المعنى، لكنها تجبر عليه، وهذا لا يعني استخدام اللغة للتجميل، بل استخدامها للتزييف وتصديق هذا الزيف.

إن النظام الشمولي القمعي، لا يقمع البشر والمجتمعات والاقتصاد والتعليم والأحلام والفن والأدب... الخ فحسب، بل يقمع اللغة أيضاً.وعندما يستمر هذا النظام لعقود طويلة، تظهر وكأن لغة الزيف والكذب المقعرة وكأنها اللغة الحقيقية التي يتطابق منطوقها مع واقع الحال التاريخي والسياسي والثقافي.لكنها في واقع الحال، هي مثل قصة الملك العاري، لكن لا يوجد ذلك الطفل الذي ينطق بالحقيقة، ويكشف زيف الواقع وزيف اللغة ويصرخ «الملك عارٍ» لا ثوب ولا مجد، الواقع هو الواقع، عار رغم التزييف الطويل على مدى عقود، الذي ينجح في بعض اللحظات في تصوير الواقع على غير ما هو عليه، وتزيّفه، واعتبار الزيف هو الواقع الواقعي والمعطى التاريخي النهائي، يبقى الواقع ينتظر الصرخة التي يعلن فيها أحد ما:«الملك عارٍ».

يطول أو يقصر الزمن للوصول إلى هذه اللحظة التاريخية، لكن يبدو أن الوصول إليها لا بد منه، يأتي في اللحظة غير المتوقعة، يفاجأ الجميع، ليس الملك العاري فحسب، بل يفاجئ من يصرخ أن الملك عار أيضاً. كانت المنطقة بحاجة إلى صرخة محمد البوعزيزي، حتى نكتشف، أن العري فاضح أكثر مما تصورنا. كانت صرخة البوعزيزي هي اللحظة التي أعادت المنطقة إلى واقعها الحقيقي، وأعادت البشر إلى مكانهم في التاريخ وقدرتهم على صناعته، واحتلال الميدان العالم الذي هو ميدانهم، وليس ميدان أدوات القمع والقهر. ولأن كل الأشياء والقضايا والمفاهيم، تذهب لتنتظم في مكانها الطبيعي والحقيقي، فإن اللغة تستعيد معانيها، وتذهب لتتطابق مع دلالاتها. اللحظة التي تذهب الشعوب لصناعة تاريخها، هي اللحظة التي تستعيد اللغة فيها روحها، لأن صناعة التاريخ لا تقوم من خلال الزيف والتزييف، بل تقوم من خلال مطابقة اللحظة التاريخية لدلالاتها، وهذه اللحظة لا يمكن أن تتطابق مع صناعة التاريخ، دون أن تتطابق اللغة مع دلالاتها ومعانيها، حيث تسقط دفعة واحدة عقود من الزيف، وتدبُّ الروح في اللغة التي تمت إماتتها في عقود القمع والاستبداد.

في المجتمعات الإنسانية، أيام قليلة، تفصل بين زمنين لا يشبهان بعضهما، يمتد زمناً سقيماً فقيراً وبائساً لعقود، يصبح كأنه قدر لا مفر منه، يطول الليل، كل شيء في هذه المجتمعات يخبو ويخفت ويتقعر ويتعفن مع الاستمرار لزمن طويل في ظروف حياة راكدة تدمر كل شيء، السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم وحياة البشر وحتى اللغة. يكاد يستسلم البشر لهذا الواقع المؤلم، ويظهر كأن الألم بات جزءاً طبيعياً ومكوناً عادياً من مكونات حياتهم. في هذه اللحظات يفاجئنا التاريخ بانعطافته الحادة، ويُظهر كم هو الاستقرار الكاذب هشاً، وكم هي الحياة التي تعيشها المجتمعات تفتقد إلى الروح، وأن كل شيء يتعفن دون الحرية، التي هي روح المجتمعات، التي اعتقدت سلطاتها أنها قايضت الاستقرار بالحرية، كمعادلة أبدية.

لا شك عندي، بأن العالم العربي يمرّ في لحظة الحقيقة، لحظة انعطافة تاريخية، لا يمكن أن يحيا بعدها كما كان يحيا قبلها، بصرف النظر عن المآلات التي سيذهب إليها الحراك الذي رفع حرارة المنطقة حتى درجة الانفجار، وأخرجها من جمود وجليد طويلين. فالثورات قطيعة مع الماضي وليست لحظة استمرار تاريخي، والتاريخ الذي استكنا إليه واعتبرناه معطى نهائي، اكتشفنا أن عوامل القطيعة قد نمت داخل الركود الظاهري، نمت بعيداً عن أعين الاستبداد وأدوات قمعه، التي تحسب على الناس أنفاسها.يحاول الاستبداد أن يصنع التاريخ على هواه، لكن المجتمع هو الذي يصنع التاريخ، كما يجب أن يُصنع لا على هوى الاستبداد وأدوات قمعه، لا حسب رغبات دعاة صناعة التاريخ.يسلك التاريخ طرقاً وعرة وملتوية، ولكن في النهاية يصنعه البشر الذين يشكلون المجتمعات والذين من حقهم أن يكونوا أصحاب بلدانهم، وليسوا رعايا وعبيد فيها.

تحولت اللغة العربية في الخطاب السلطوي إلى لغة خشبية مجوفة لا معنى لها، لغة من الصعب الاستماع لها، لأنها لغة سقيمة فقدت دلالاتها، تحتفل بنفسها، ولكنه احتفال بلا معاني، لغة إنشائية، تحول الهزيمة إلى نصر، والفقر إلى غنى، والسياسة إلى موضوع إنشاء في حب الحاكم، والاقتصاد منح من الحاكم للشعب المتسول. في لحظة القطعية، يخرج البشر الذين لم يعودا يقبلون العيش بالطريقة السابقة باحتجاجات واسعة إلى الشارع، يحتلون الميدان العام بالمعنى السياسي والثقافي واللغوي، حيث يجلبون لهذا الميدان لغة جيدة، ليس على مستوى السياسة فحسب، بل على مستوى التخاطب، وحتى على مستوى السخرية، لغة جديدة، حية، خارجة من الحدث الطازج، لغة من روح البشر مروية بدمائهم، لا تشبه اللغة التي عرفناها لعقود، يقلبونها رأساً على عقب. يعود البشر إلى الميدان العام الذي تم إبعادهم عنه وطردهم منه، بالعنف والقمع العاري، لا ليستعيدون حقوقهم ورفع المظالم التي عاشوا في ظلها طويلاً، بل يعودوا ليحتلوا اللغة لغتهم، لغة الحياة التي أفقدها الاستبداد معناها، ليعيدوا لها العمق والمعنى والدلالة دون تلعثم.