كيف تصنع هوية وطنية جامعة؟!

لو نظرنا إلى التاريخ العربي الحديث نظرة نقدية مجردة من كل العواطف، وأمعنّا النظر إلى فترة نشوء الفكر القومي المستوحى من الفكر القومي في أوروبا آن ذاك… وتبني هذا النهج من قبل جماعات في سوريا والعراق وغيرهما من الأقطار العربية بعد إعطائه صبغته العربية… وكيفية حصول هذا المفهوم على شرعية مستمدة من واقع الاحتلال للأراضي العربية في فلسطين…القوميون العرب الذين كانوا قد تبنوا هذه المنهجية أخذوا يطورون على الفكرة الفلسفية والبسوها ثوب الديمقراطية الشعبية مع الحفاظ على ثلاث مفاهيم سامية أساسية شكلت الشعار القومي باختلاف الترتيب للكلمات ( وحدة، حرية، اشتراكية ) أو (حرية، اشتراكية، وحدة)…

إلا أنه ومع كل المحاولات بالتطوير بقيت الهوية القومية بمفهومها السامي بعيدة كل البعد عن ملامسة الحياة العملية للعموم، حيث كانت ومازالت تعرف بوحدة اللغة والعرق والدين والإرث التاريخي والحضاري وواجب التحرر الوطني الشامل…

ظهور توجهات أخرى

بعد وصول حزب البعث العربي الإشتراكي إلى سدة الحكم في سوريا والعراق، كانت أهم مشكلاتهم هي اختيار نهجٍ إقتصادي وتحليليٍ للتعامل مع متطلبات الحياة … مما أدى إلى ظهور توجهات أخرى، فتبنت “جماعة صلاح جديد” و آخرون المنهج الماركسي الينيني أو الاشتراكية العلمية – كما أطلقوا اسماً عليها- والتي لاقت هجوماً شرساً من قبل الكثيرين وأدى ذلك إلى سجنهم و نفيهم من سوريا بعد استلام حافظ الأسد سدة الحكم، فيما آثر بعث العراق الحفاظ على الدين الاسلامي كجزء من الهوية…

والجدير بالذكر هنا، هو أن الفكر القومي البعثي وجد من الدعم الشعبي المعنوي الكثير في الأقطار العربية الا أن وصوله إلى الحكم انحصر في سوريا والعراق، كما إن وصوله لمنصة الحكم كان عن طريق الانقلاب العسكري ولم يكن على يد ثورة جماهيرية ذات فكر ثوري واضح كما وجب أن تكون… فشل هذا التعريف للهوية القومية يتيح لنا السؤال، أين يكمن الخطأ في تعريف الهوية العربية السابق وكيف ممكن تجاوزها؟!

بناء مفهوم قومي جديد

في ظل صياغة مفهوم الهوية القومية، لابد من الاهتمام بثلاث نقاط أساسية:

أولاً: تعريف عصري للهوية

وهنا وجب السؤال كيف استطاع جنكيزخان توحيد القبائل المغولية، التي بنت قوة عظمى زحفت الى بلاد الشام ( علماً أن هذه القبائل كانت همجية ولاتعرف من الثقافة والتحرر والعلوم شيئاً)؟!؟! كيف استطاع لينين خلق هوية سوفيتية من العدم، والتأسيس لقطب شرقي أرّق الغرب ونهجه الامبريالي؟! في التجربة المغولية كان المفهوم التوحدي ينبع من الحاجة الملحة إلى التوسع لضمان الموارد الحياتية الأساسية التي تعتمد عليها الحياة العملية بشكل أساسي بالإضافة إلى أهداف وأطماع أخرى على هامشه، مما لامس حياة العموم بشكل مباشر وأدى إلى قبوله ،فتبنيه لإنشاء قوة موحدة تسعى لتحقيقه.

وكذلك في روسيا القيصرية التي عانى العموم فيها من الأنظمة الاقطاعية ، فجاء لينين بالهوية السوفيتية المبشرة بالخلاص من الهيمنة الطبقية، وكضمان في حياة كريمة للطبقات المسحوقة وللمنتجين.

وعلى غرار هاتين التجربتين، لابد لنا من إنشاء هوية عربية لاتقوم على أسس اللغة أو الإرث التاريخي..إلخ… بل على أساسيات من الحاجات اليومية الموحدة بين الشعوب العربية وضمانات واضحة وصريحة بمنحهم حياة كريمة ومستوى معيشي يضمن العدالة الاجتماعية، ويؤسس لاكتفاء ذاتي، يحقق السيادة الذاتية بديمقراطية شعبية بعيدة عن التبعية الذليلة للامبريالية العالمية، وتلوينها بصبغة التحرر الوطني الشمولي وعلى رأسها تحرير الأراضي العربية المحتلة في فلسطين كأداة للوصول لحياة كريمة وليست كهدف… والابتعاد عن المفاهيم الفاشية والأخرى المعقدة والبعيدة عن العموم…فالهوية القومية ليست حكراً على المثقفين والفلاسفة…!!!وللطبقات المنتجة الحق في حمل رسالة التوحد وهم أساس نجاحها.

ثانياً: بناء برنامج نهضوي واضح

لابد من ربط مفهوم الهوية ببرنامج نهضوي شمولي يرتقي بالفكر العربي اليومي في كافة المجالات وأهمها المجال الاجتماعي التكافلي، لضمام استمرارية المشروع بين العموم وتأمين الحصن المنيع الرادع لقوى الثورة المضادة والرجعية وأيادي الامبريالية العالمية الظاهر منها والمخفي… والتركيز هنا يأتي على الناحية التوعوية، والسعي نحو تغيير بوصلة الإنتماء الشعبي، من الإنتماء للذات نحو الإنتماء للمجتمع، و زرع مفاهيم التعاون المجتمعي كوسيلة لتحقيق المصلحة الفردية، وأن الانتماء للمجتمع ككل هو الحل الأمثل لضمان الحقوق والحريات الفردية … مما يشكل حافزاً للعطاء وللحفاظ على الكفاءات الشعبية والشبابية…

ثالثاً: تسويق الهوية

أهم عامل كما سلف الذكر هو ملامسة الحياة العملية للعموم، وبالتالي إن الأسلوب الأمثل لتسويق الفكر القومي الاشتراكي هو التواصل المباشر مع العموم، ومنحهم الثقة والمطالبة بالمثل لإتاحة فرص التعاون في تحقيق المراد، كما تلعب الجمعيات الخيرية والنوادي والمحافل التعليمية دوراً هاماً في نشر الوعي القومي لخلق حالة جماهيرية داعمة لهذا المفهوم، وقوى ناشطة تعمل على تحقيقه…

إن الهوية العربية لن تكون جامعة الا إذا حاكت حاجات الناس وهمومهم، ليفهموا لغتها…فيؤمنوا بها… فيتبنوها… فيتّحدوا…