‘يرموك’ لمحمد بكري: الفيلم/الدعاية المسيء للمخيم الفلسطيني

بقلم: سليم البيك

كي لا يبدو الأمر كما أراد له بعض الفلسطينيين أن يكون، محوّلين الأمر برمّته إلى ساحات الفن والحريات. لمحمد بكري وغيره الحق في التعبير الحر عن رأيه بالكلمة والفيلم وأي أداة يراها مناسبة، ولي وللفلسطينيين الحق في أن نعبّر عن آرائنا بفيلمه الأخير بالحرية ذاتها التي أخرج بها الفيلم.
لم يكن يوماً النقد والرأي السلبي بالعمل الفنّي رفضاً لحرية صاحب العمل في التعبير عن رأيه، بل على العكس من ذلك فهو يستمد حقّه في النقد من حق صاحب العمل أساساً في قول ما أراد قوله، وقد فعل. وأي اتهام مسبق من أي طرف لآخر (يكون عادة من صاحب العمل والمدافعين عنه تجاه المنتقدين) بأنهم بانتقاداتهم إنما يضيّقون على الحرّيات، هو اتهام إن تطوّر قليلاً وأُعطي بعض السلطات لتحوّل لستالينية تحظر أساساً أي نقد حر للعمل الذي سبق وطرح فكرته وأكملها.
فيلم المخرج والممثل الفلسطيني محمد بكري القصير والممتد لثماني دقائق وتسع ثوان أُهدر بعضها على الجنيريك الطويل، يحكي عن أب من المخيم يبيع ابنته لثريّ خليجي مقابل مبلغ من المال ليرجع إلى بيته بأكياس معبأة بالفاكهة. والفيلم يحمل عنوان ‘يرموك’، مشيراً إلى المخيم الفلسطيني المحاصر في دمشق.
بعد إعادة التأكيد على حق بكري في قول ما يريده عبر فيلمه، وإن كان الفيلم مجرّد كذبة دعائية كما سأوضّح هنا، سيحق لي التعبير عن رأيي به دون إخضاع أسطري هذه لضوابط يعرفها جيداً أعضاء الأحزاب الستالينية.
لا أدري إن كان هنالك مجال لنقد الفيلم فنياً لأننا بذلك سنفترض ما هو فنيٌ بالأساس لنبني عليه الرأي النقدي، وليس هذا مأخذي على فيلم بكري، وهو ممثل بالأساس، عرفناه بمسرحية ‘المتشائل’ الناجحة كونها بُنيت على نص رواية إميل حبيبي، وهي من بين النصوص الأميز عربياً، وعرفناه كمخرج فيلم ‘جنين جنين’، الذي اشتهر لا لمضمونه ولا ‘فنّيته’، ولعلّ معظم قارئي هذه الأسطر لم يشاهده، إنما لمع اسم بكري حينها بعد رفع عدّة جنود إسرائيليين دعوى عليه بسبب الفيلم. كما عرفناه كمقدّم برامج على قناةفلسطين الرسمية. أي أننا، أنا على الأقل، لم نعرف بكري كمخرج تميّز بفيلم ما لأسباب فنيّة، فهو، بعد كل هذه التجربة، ما يزال مخرجاً مستجدّاً كادت الناس تنساه لولا لهوسة التي انتشرت قبل أيام بعنوان ‘يرموك’.
من الناحية الموضوعية، قد يُظهر الفيلم جهل مخرجه وكاتب نصه (ابن المخرج) والممثلين فيه (عائلة المخرج) بالحاصل لا في مخيم اليرموك فحسب، بل في عموم سوريا وفي مخيمات اللاجئين السوريين في الخارج.

المشكلة في الحصار وليست في الفقر

نبقى في اليرموك حيث تكمن مصيبته الحالية في الحصار الذي يطبقه عليه النظام السوري والتنظيمات الفلسطينية التابعة له منذ أكثر من سنة، حصار هو الأقسى تاريخياً كما صرّح أحد المندوبين الدوليّين، حصار قتل العشرات جوعاً وقهراً، فالمشكلة لا تكمن في الفقر الذي يدفع أباً (مثّل دوره بكري نفسه) لبيع ابنته إلى ثري خليجي، بل في حصار يمنع الغذاء والدواء من الدخول للمخيم كما يمنع أهله من الخروج منه، لا كما شاهدنا في الفيلم حيث يقود الأب سيارته محمّلاً بابنته ليقابل الخليجي خارج المخيّم أو داخله!
أي أن أساس القصة غير ذي صلة بمصيبة المخيم، وهو إن دلّ على شيء فهو إما أن بكري يجهل تماماً ما الحاصل في المخيم وما أساس مأساته وبالتالي يتجرأ على إخراج فيلم في ما يجهله، أو أنه (وهو الأغلب) يعرف تماماً ما الحاصل هناك إلا أنه اشتغل على دعاية سياسية أراد إيصالها عبر فيلمه بلَيْ عنق الحقيقة لتلائم رسالته المسبقة التي أرادها.
أقول هذا هو الغالب لأن بكري العضو القديم في الحزب الشيوعي الإسرائيلي لا يستطيع، وفاء منه لحزبه على الأقل، إلا أن يفهم السينما كأداة دعائية يتم الاستفادة منها لخدمة مواقف سياسية، قد نتّفق معها وقد نختلف. والابتذال والمباشرة والدوغمائية البارزة في ‘يرموك’ يصب في صحة هذا الاحتمال، خاصة وإن عرفنا أن الحزب الإسرائيلي عينه يستميت في الدفاع عن نظام الأسد في قتله السوريين والفلسطينيين استماتة دفاعهم عن فقيدهم ستالين، لما يرون في الأول استنهاضاً لإرهاب الدولة الذي مارسه الأخير ربّما.

قصة فيلم تبنى على كذبة

لست هنا لأقول أن شعبنا هو شعب الجبارين وغيرها، إلا أني لن أمرّ بسهولة على فيلم تُبنى قصّته على كذبة يُقحم فيها مخيم يموت أهله جوعاً لأسباب هي بحت دعائية للنظام القاتل، أقول ذلك لأني لن أصدّق ولن أفترض أن بكري جاهلاً بحقيقة مأساة المخيم.
وعن محتوى الفيلم، رغم قصره، يمكن طرح العديد من الأسئلة المشككة في مدى مصداقيته لدى الكثيرين، إلا أني أعيد وأطرح المسألة كبروباغادنا لنظام الأسد على حساب الفلسطينيين بالمجمل وأهالي اليرموك تحديداً، بروباغاندا مبنية كأي دعاية سياسية أخرى على كذبة تتكرّر، لذلك لن تهمّني الأسئلة التالية كونها، ضمن العمل الدعائي، لن تكون ذات أهمية، إلا أني سأطرحها لمن يود منح موضوعية الفيلم فرصةً ما مفترِضاً سذاجة بكري وجهله بالمأساة، وهو افتراض هشّ لأننا لم نعد في زمن تكون فيه جريدة الحزب الستاليني وبيانات مكتبه السياسي المصدر الوحيد للخبر.
أسأل: في مخيم الأشباح المحشي بالقنّاصة والمسلّحين، كيف يمكن للأب أن يقود سيارته بأمان، وليلاً؟ هل خرج من المخيم، كيف ولا يمكن لقطّة أن تفلت من المحاصرين؟ يلتقي بسيارة مرسيدس للثري الخليجي، كيف دخل هذا الأخير إلى المخيم إن لم يخرج الأب؟ الغالب أنه خرج والتقيا خارج المخيم، كيف وأين؟ أي خليجي انتحاري سيركب مرسيدس ويتجوّل في شوارع دمشق الآن؟ ولماذا الصورة الاستشراقية عن الخليجي الثري بعقاله المائل؟ ثم ما هذا الجدار والأسلاك الشائكة في الخلفية ولا شيء كهذا يفصل المخيم عن دمشق؟ وما خصّ جدار الفصل العنصري بالفيلم؟ وكيف لا يرمش للأب جفن من أصوات القذائف والطلقات وكأنها تأتي من الطرف الآخر للمدينة لا على رؤوس أهالي المخيم؟ ولمَ لم يبع سيارته بدل ابنته من أجل المال؟ ثم يقول الأب للقواد: هدول خمسة مش ألف. خمسة ماذا؟ هل يتعاملون بالشيكل في دمشق أم أنها خمس مائة ليرة لن تكفي لربطة خبز؟ ثم كيف نُقلت ‘حدائق البهائيين’ من حيفا إلى دمشق في هذا الفيلم السوريالي؟ وما الذي جاء بالجدار إلى حيفا أساساً؟ ألا يكفي ثمن الابنة لشراء اللحمة لباقي الأبناء كي يعود إلى البيت بأكياس من الموز والبرتقال والخبز؟ وغيرها من الأسئلة التي يفوق عددها عدد المَشاهد في الفيلم.
كتب بكري على الفيسبوك بياناً يرفض فيه الاعتذار مبرّراً أن الفيلم لم ينته بعد. لكن هل ستجيب الرتوش التي ينتظرها الفيلم الذي لم ينته على كل تلك الأسئلة وغيرها أكثر؟

القدس العربي