فيلم 'يرموك': إذلال سينمائي

بقلم: راشد عيسى

اخترع الممثل الفلسطيني محمد بكري في فيلمه القصير الجديد "يرموك" (8 دقائق) عالماً لا يمتّ إلى واقع فلسطينيي مخيم اليرموك بصلة، ولولا إشارته في تيترات الفيلم إلى المخيم المنكوب وما يعانيه من قهر وتجويع، لظننا أنه يتحدث عن مكان آخر تماماً.

المكان في فيلم البكري لا يشبه اليرموك، المكان السهل، حيث لا وجود لهذه المرتفعات التي تصعدها سيارة البطل. الحواجز الاسمنتية العالية والأسلاك الشائكة تشير إلى الجدار العازل في فلسطين أكثر مما تشير إلى اليرموك. أما المصيبة الكبرى فهي حكاية الفيلم المخترعة التي تبدو وكأنها صُممت من أجل مزيد من إذلال الفلسطينيين، أكانوا داخل المخيم أم خارجه، أولئك الذين يعانون مرارات لا تحصى، لا تنقصها مرارة أخرى يضيفها فيلم البكري.

يقول الفيلم إن رجلاً فلسطينياً يعمد، من أجل أن ينقذ عائلته من الجوع، إلى بيع ابنته إلى ثري خليجي، في "صفقة ضرورية ومؤلمة" بدليل أن الرجل (يؤدي دوره محمد بكري نفسه) ذرف دمعة (!) بعدما غادرت ابنته سيارته إلى أحضان الثري الخليجي، المتأهب بلباسه التقليدي في سيارته الفارهة. يذرف الرجل دمعة، ثم يعود إلى  أسرته حاملاً أكياس الفاكهة والموز يرميها بين أطفاله الجائعين المتلهفين. ينقضّ هؤلاء بدورهم على تلك الأشياء، سوى طفل منهم يحمل قرنيْ موز ويصنع منهما شكلاً غير مفهوم تماماً، فيما ينظر الطفل من خلال الفراغ المتشكل بينهما. لكن أحد المدافعين عن الفيلم، وهو في الوقت نفسه أحد مناوئي الثورة السورية، قال إنها إشارة جنسية قد لا تكون مقصودة، وهو مع ذلك يعتبر الفيلم شبه رومانسي.

إنها حبكة مريضة من دون شك، صنعتها مخيلة رخيصة تكرر حكايات شعبية معادة آلاف المرات عن نساء يبعن لأثرياء الخليج. لو كان لدى البكري قليل من الاهتمام لاستطاع الوصول إلى مئات القصص عن فلسطينيي المخيم تستحق أن تروى سينمائياً، فلماذا هذه الحكاية المريضة؟ ألأنه أراد أن يحشر أنف الخليج في الحكاية الفلسطينية ليقول إنه هو المسؤول عن هذا العار الذي لحق بالفلسطينيين؟ مع أن واقع الحال يقول إن الفلسطيني المحاصر لو أراد أن يبيع شيئاً فإن المتحكّم الوحيد بلقمة عيشه هو النظام السوري وأنصاره الممانعين فهم وحدهم من يحاصر المخيم، وقد يكون أشبه بخرافة وصول دشداشة خليجية إلى هناك. لكن حتى لو بيعت البنت لرجل عسكري على الحاجز من أجل لقمة الخبز فستكون عصية على التصديق، لأنها ببساطة غير منطقية، ولم تحدث.

يصعب أن يفترض المرء حُسنَ النية في تلك المحاولة السينمائية الرديئة للبكري، فإذا افترضنا جهله بالصنعة السينمائية، كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، كيف نغفر موقفه السياسي وراء العمل؟ لماذا لا يريد أن يسمي الأمور بأسمائها؟ لماذا يريد أن يموّه الأمر بالتوجه إلى "الأمة العربية" فيما أمامه جبروت النظام السوري يحاصر ويقصف ويقتل ويجوّع الناس؟ لا يكتفي البكري بعدم تسمية المسؤول، يريد أن يرمي القضية على كتف مسؤول مجهول اسمه "الأمة العربية"، تلك التي صوّرها هنا بثياب ثري خليجيّ.

أثار فيلم "يرموك" موجة استياء كبيرة لدى عرضه وتداوله في مواقع التواصل، وهي محقة على أية حال، لكن لا بد من السؤال: هل يعني ظهور فلسطيني يبيع ابنته في فيلم سينمائي أنه لا بد من الاستنتاج أن كل الفلسطينين يبيعون بناتهم؟ هل يعني ظهور عميل فلسطيني للموساد، بل عدد كبير من الفلسطينيين العملاء للموساد في السينما أو في الواقع، أن كل الفلسطينيين عملاء للموساد؟ هل يعني ظهور ممرضة مسيئة، تستغل مهنتها للتجارة بالأعضاء البشرية أن في ذلك إساءة لمهنة التمريض، وأن على الممرضات أن يخرجن في  تظاهرة دفاعاً عن مهنتهن؟ ربما هنا بعض المبالغة في اتهام الفيلم، رغم كل رداءته، وتخاذل موقفه.

لقد سمعنا قصصاً كثيرة تحدث عند حواجز النظام، من بينها واحدة طلب فيها عسكري على الحاجز ممّن يريدون العبور إلى داخل المخيم آمراً: "الذي يعوي يدخل"، وعلى ذمة الرواة الفيسبوكيين أن رجلاً مسناً اضطر أن يفعل ذلك، فهو يحمل الخبز والطعام لأولاده ولا بد أن يمرّ إليهم.

المشكلة أن فيلم محمد بكري يريد أن يعرض فقط الرجل وهو يعوي، ولا يريد أن يعرض العسكري الذي أجبره، لا يريد أن يرينا جبروته ووحشيته. هنا الإذلال كله. 

المدن