متى نعضّ أصابع الندم..؟ الانقسام ما زال قائماً..!!

dr.youssef

تقديم

في الأسبوع الماضي، اكتظ فندق (InterContinental) بمدينة نصر بعشرات القيادات الفلسطينية الممثلة لمختلف فصائل العمل الوطني والإسلامي، التي جاءت من دمشق وعمان ورام الله وغزة يحدوها الأمل أن يكون هذا اللقاء هو للاتفاق على تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة الأخ (أبو مازن) ويتم بذلك الإعلان الرسمي عن نهاية الانقسام، والشروع بإجراءات على الأرض تمهد الطريق لإعادة الإعمار والإعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة.. للأسف، كان اللقاء مخيباً للآمال، والانطباع الذي خرج به الجميع هو الإحباط الشديد، وقد شعرت بذلك في تعليقات كل من أتيح لي فرصة اللقاء به أو الجلوس معه، باستثناء الناطقين الرسميين لكل من فتح وحماس، والذي حاول كلُّ واحد منهم الادعاء بأن الطرف الآخر مسئول عن التأجيل، وتحميله بذلك وزر ما وقع من إخفاق في التوصل إلى رؤية تخرجنا من الحلقة المفرغة التي أزعجنا الشارع الفلسطيني من كثرة الدوران حولها دون إنجاز يُذكر.

لاشك أن هناك تعقيدات تتعاظم مع الزمن، وهناك ضغوطات يمكن أن نتفهمها تُمارس على الرئيس (أبو مازن) من قبل الإسرائيليين والأمريكان لعدم الشروع في أية ترتيبات يمكن أن يكون لحماس فيها دور "المقرر"، سواء على مستوى تفعيل المجلس التشريعي أو منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ما يجعل الرئيس (أبو مازن) متردداً، ويبحث عن أعذارٍ لشراء الوقت، أملاً أن يتغيّر موقف الرئيس باراك أوباما - بعد الانتخابات الأمريكية - لصالح دعم السلطة الفلسطينية في نوفمبر القادم، وأيضاً الرهان على إمكانية تعافي الوضع العربي واستقراره، وكسب دعم الأنظمة الديمقراطية التي تتمتع بدعم "شارع الثورة" كورقة ضغط وتأثير على الإدارة الأمريكية والغرب - بشكل عام - لتبني سياسيات متوازنة تجاه الصراع على أرض فلسطين، والعمل على إيجاد حلٍّ عادلٍ يتحقق معه قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67 والقدس عاصمة لها، مع عودة اللاجئين إلى أرضهم وديارهم.

في الواقع، لا يمكننا الاستمرار في التلكؤ والانتظار أطول من ذلك، حيث تقوم الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل بتسريع وتيرة التهويد في مدينة القدس، وتزايد معدلات الاستيطان – بشكل سافر - في معظم أرجاء الضفة الغربية، الأمر الذي يجعل ما يُسمى بـ"حل الدولتين" التي يتحدث عنه المجتمع الدولي سراباً بقيعة أو جزءاً من أحلام الماضي البعيد.

الفصائل الفلسطينية: هياكل بلا أنياب

يمكنك أن تسمع من حين لآخر تصريحات نارية يطلقها قادة هذا الفصيل أو ذاك، ولكنها – كالعادة – مجرد فرقعات للاستهلاك المحليّ.. لقد فقد الشارع الفلسطيني حقيقة ثقته في الكثير من هذه الفصائل، لأنها تحولت – باختصار - إلى مجرد مكاتب أو ظواهر صوتية تدفع لها منظمة التحرير من قوت الشعب المسحوق معاناة واحتلالاً، ولا يملك قادة هذه الفصائل – للأسف - من لغة جديدة غير ما تعودوا قوله منذ الستينيات؛ نفس الخطاب والعنتريات التي ما قتلت بعوضة.

لقد احتضن الفندق الأفخم في (City Star) بالقاهرة أكثر من خمسين شخصية قيادية فلسطينية، وبرعاية مصرية تعكس حيوية أدائها جدية الاهتمام وجمالية الكرم العربي.. كانت الجلسات التي تدور في ردهات الفندق وكواليسه بين مختلف قادة الفصائل الوطنية والإسلامية أصدق في توصيف الوضع القائم، فالكل يعلم حقيقة ما يجري، ولكنهم لا يستطيعون التعبير بصراحة عما يعتقدون إلا في أضيق الحلقات وبين ثلة الأصدقاء الثقات، لأنهم يعلمون أن الإفراط في القول وكشف المستور قد يعقبه قطع الأرزاق عنهم وعن فصائلهم، وهم - فيما تبقى لهم من عمر – لا يرغبون في المغامرة، ولو ضاع الوطن واستمر العدو الغاصب في استباحة حمى المقدسات.

ليس هناك من بين من شاركوا جلسات الحوار من لا يعرف الحقيقة، ولكنهم يحاولون – دائماً - الالتفاف حولها لاعتبارات لا تغيب عن أحد.. إن ما يجري في هذه اللقاءات هو عملية ممنهجة من "التدليس" يمارسها كلُّ طرف على الطرف الآخر؛ أي أنهم – كما قال أحد المطلعين ببواطن الأمور – إذا أردت الحقيقة "إنهم يتكاذبان".!! فالكل يراهن على المجهول، في ظل غياب مسار استراتيجي ورؤية وطنية تجمع الصف وتوحد قواه، وتحدد "بوصلة المواجهة" طريقه ونجواه.

إن الشارع الفلسطيني - الذي نحن جزءٌ منه - بانتظار أن يلمس وجود إجراءات وحقائق على الأرض، تدفعه إلى اليقين بأن قيادته - فعلاً - تريد إنهاء الانقسام وليس إدارته.!! لذلك، فإن مظاهر الإحباط تطارده، وتدفعه للتذمر وربما - غداً -للثورة، لأن كل ما نشاهده هو وجود قيادات في التيارات الوطنية والإسلامية دون مستوى طموحات هذا الشعب، والمطلوب من بعضها مغادرة مراكز التوجيه والجلوس في بيتها تحكي لأحفادها وجيران الحي "أمجاد عهدٍ مضى".

إن وجود أمثال هؤلاء القادة على رأس أعمالهم فيما أوضاعهم الصحية وموازين العقل عندهم بهذا الترهل والاعتلال لن يمنح شعبنا الحيوية والقدرة على تجاوز حالة الشلل التي أصابت مفاصل "أولي الألباب"، حيث استكان الكثير منهم بانتظار "المخلّص" الذي سيأتي آخر الزمان.!!

إن واقعنا القائم بحاجة إلى تغيير في هياكله الوطنية والإسلامية، فالحالة المزرية إذا لم يتم إصلاحها فإن الوضع الفلسطيني سينفجر كله، لأن حجم الإحباط والإهانة والقهر قد بلغ سيله الزبى جراء الممارسات الاحتلالية و"ظلم ذوي القربى" في الأجهزة الأمنية، كما أن تنامي المشكلات الاجتماعية الناجمة عن الفقر والبطالة وغياب الأفق السياسي هي في الحقيقة برميل بارود (Pandora Box) سيفاجئنا اشتعاله، وإن كانت أبعاد ما سيحدثه من تغيير يصعب إدراكها أو التكهن بها الآن.

إنني أنصح قيادات العمل الوطني والإسلامي الذين حفرت الشيخوخة أخاديدها في نفوخ الكثيرين منهم أن يتنحوا جانباً، وأن يُشغل كلُّ من يمتلك منهم قلماً نفسه في كتابة مذكراته أو إسداء نصائحه في المجالس والدواوين، فلعل الجيل الحالي أو القادم يستفيد منها حزمةً من الدروس والعبر، لإعانته على تجاوز الأخطاء والخطايا التي ارتكبها من سبقوه في قيادة المشروع الوطني.

بصراحة مطلوب صيانة وطنية:

لقد سمحت لي جولات الحوار في القاهرة وزياراتي المتكررة إلى دمشق وبيروت للتعرف على معظم القيادات التاريخية والعناصر المخضرمة في العمل الوطني والإسلامي، وأشهد أن البعض منهم مازال لديه ما يمكن أن يقدمه – مكتوباً – من خلال مسيرته النضالية منذ مطلع الستينيات وحتى الآن، ولكن هذه الشخصيات لا يمكنها اليوم ملاحقة "روح العصر" والتعاطي مع أدوات المعرفة القائمة، وما يتطلبه الصراع من قوة وجسارة وعلم، ولذلك فإن من الأفضل لمسيرتنا الوطنية أن نجد لمثل هؤلاء حاضنة وطنية ترعى شأنهم وتأتينا بخلاصة ما لديهم من فكر ورؤية، باعتبار أن التجارب عركتهم، وأن منتوج الحكمة عند بعضهم قد يجد طريقه لإنضاج مسيرتنا الوطنية.. أتمنى أن يجيء الوقت الذي نتجاوز فيه سياسات "تأبيد القيادة"، بحيث يقع التداول – على الأقل – كل عقدٍ من الزمان؛ فلا نرى زعيماً يستمرئ الجلوس على "كرسيِّ الزعامة" إلى أن يأتيه ملك الموت أو يأخذه "الزهايمر" من حيث لا يحتسب.

إن من جاءوا إلى القاهرة هم – في الأغلب – عقليات "كلُّ ما فيها عتيق"، وهي لن تنجح في إخراجنا من نفق الأزمة، وليس لديها رؤية إستراتيجية، وبصيرتها معطوبة وحساباتها في معظمها خاطئة أو مشوشة، لأنها تشدنا – دائماً - إلى مربع الهوامش والتفاصيل، حيث تتسلل الشياطين لإجهاض كل ما عقدنا العزم على الاتفاق عليه وإنجازه.

لقد شعرت بالحزن العميق وأنا أرى أن الجهد المصري المبذول لرأب الصدع وتذليل العقبات يتبدد - في كل مرة - بسبب غياب الرؤية الإستراتيجية، وانشغالنا كذلك بصغائر الأمور.

إن الإخوة في جهاز المخابرات العامة لديه حرص ملحوظ على طي ملف الانقسام، للتفرغ لملفات أخرى ذات جدوى فيما يتعلق باستقرار الحالة السياسية والمعيشية والأمنية داخل الساحة الفلسطينية، وكذلك بما يتعلق بأمل الفلسطينيين في إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية حرة ومستقلة.. إن هذا العبث السياسي الذي يمارسه البعض هو في حقيقته تكريس للاحتلال، وإشغال عبثي - لا مبرر له - لكل جهد عربي أو إسلامي يحاول إخراجنا من ظلمة ما نحن فيه إلى وضح ما يتوجب علينا عمله من وحدة الموقف والقرار.

الكرة في ملعب الرئيس:

كانت الآمال معلقة على الرئيس (أبو مازن) أن يأتي حاملاً في جعبته تشكيلة حكومته الانتقالية، وأن يكون اللقاء لنقاش الضمانات التي يمكن أن تقدمها الفصائل - وخاصة فتح وحماس - لنجاحها والتمكين لها، ولكن للأسف وجدنا مثبّطات و"تسويفات" جديدة، حاول البعض – ظلماً - تحميل حماس سبب التأجيل، لاعتبار وجود خلافات داخل حركة حماس حول "إعلان الدوحة"، ولكن الحقيقة – التي يعرفها كل من تابع الحدث - هي أن المكتب السياسي للحركة حسم هذه المسألة لصالح تأييد الاتفاق قبل لقاء الأخ خالد مشعل بالرئيس (أبو مازن)، وبالتالي جاءت حماس إلى اللقاء وقد طوت صفحة جدلها الداخلي، فلا حجة لأحد أو مبرر للاتكاء على هذا العذر.

في السابق ولأكثر من ستة شهور ونحن نناقش قضية رئيس الوزراء، اختلفنا على الخيارات التي تقدم بها الطرفان – فتح وحماس – ثم عاودنا الخلاف حول الخيار الذي طرحه الرئيس (أبو مازن)، وبعد "إعلان الدوحة" اعتقدنا أن العقدة قد تمَّ حلها، وإذا بنا نعاود الجدل والتأجيل ومن جديد.!!

التقيت خلال فترة وجودي في القاهرة المناضل الجزائري (جلول ملايكه) وسألته عن رأيه فيما نحن فيه من انقسام، فقال: "إننا مررنا بحالة مشابهة في الجزائر في مطلع الخمسينيات، ولكننا أدركنا أن الانقسام سيضعف مقاومتنا ووضعنا التفاوضي مع الفرنسيين، فكان لابدَّ من توحيد الجهد ورصِّ الصف، الأمر الذي أعطى لحراكنا السياسي نتائجه الملموسة، بخروج المحتل ونيل الجزائر لحريتها واستقلالها. إن الفلسطينيين لن يتمكنوا من إنجاز مشروعهم في التحرير والعودة وهم على ما هم عليه من تشرذم وانقسام، ونصيحتي لإخواني في القيادة الفلسطينية – فتح وحماس – بالتعجيل بتوحيد صفوفهم لحشد طاقة الأمة خلف قضيتهم ونضالهم، إن فلسطين هي الأرض المباركة التي تحتضن واحداً من أهم مقدسات العرب والمسلمين – المسجد الأقصى - وهي قضيتنا المركزية، ولطالما قلنا "إننا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، فلا تجعلوا هذه الأمة – بانقسامكم – تفقد زخم المحبة والعطاء لكم"، إننا في الجزائر قدمنا المال والسلاح وكل ما نستطيع من أجل فلسطين، وأننا نتطلع لليوم الذي ينال فيه الفلسطينيون حقهم في تقرير مصيرهم، وسيجدون الجزائر دائماً تقف إلى جانبهم، ولكنَّ عليهم القيام بالخطوة الأولى؛ جمع الصف وإنهاء الانقسام.. استراتيجياً، لابدَّ أن تظهر صورة الشعب الفلسطيني بأنه شعبٌ موحد، ويجب أن ينتهي الخلاف على وحدة الموقف والسلاح".. وأضاف قائلاً: "إن الجزائر حقيقة قلقة من استمرار هذا الخلاف، وأن الرئيس بوتفليقة يرى أن الطرفين – فتح وحماس – قد بالغ كلٌّ منهما في الخصام".

ختاماً: فجر الثورة قادم

خلال الأيام التي مكثت فيها فصائل العمل الوطني والإسلامي في القاهرة، كانت لي فرصة الإنصات للكثيرين منهم، وقد وجدت بينهم المخلص والحريص ومن هو دون ذلك، وانتهيت إلى خلاصة مفادوها: إن هؤلاء - على طيبة أكثرهم - لن يصنعوا مصالحة، ولن يُنهوا انقساماً كانوا هم صانعيه أو المتسببين فيه، وسيظل بعضهم يجد طريقةً للاستثمار - إعلامياً وسياسياً ومالياً - في هذا المستنقع القائم، وأنه ما لم يتم فرض المصالحة على الجميع بجهد عربي وإسلامي أو حراك شعبي فلسطيني فإن نكث الغزل سيظل ديدن الساسة والقادة الميدانيين على الساحة الفلسطينية.

طوال السنوات التي أعقبت الأحداث الدامية والمأساوية في يونيه 2007 كنت مفرطاً في التفاؤل، وكتبت بروح فيها إحساس بأن الجميع يُقدّم المصالح الوطنية العليا على مصالحه الشخصية ونظرته الحزبية، ولكن تبين لي أن دهاليز السياسة المظلمة ودروبها القذرة تخلق حالة من الضبابية والتضليل والوهم، تجعل كل طرف يعمل على تكييف فهمه للمصالح الوطنية العليا في سياق تصدره لقيادة مشروعنا الوطني، وليس من خلال حالة إجماع يجد معها "الكل الوطني" أن جهوده تصب – فعلاً – في بوتقة "الانتصار" لهذا المشروع.

إن كل يومٍ يمر - ونحن على ما نحن عليه من مراوحة في المكان - هو في حقيقته ذريعة نعطيها للمحتل الغاصب للاستمرار في سياسة ابتلاع الأرض وتهويد المقدسات، وقد يكون – أيضاً – المرجل الذي يتراكم فيه شرر الغضب الذي يُشعل الشارع الفلسطيني ويدفعه للحراك والثورة.