المصالحة : "الفيتو" ليس أميركياً !!
تخلت الولايات المتحدة عن رفضها للجهود المتواصلة لإنهاء حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية، عندما أعلنت أن ليس لديها "فيتو" على إعلان الدوحة الذي تم الاتفاق بين عباس ومشعل على تولي الأول رئاسة الحكومة الانتقالية المقبلة، ولعلّ مجرد أن هذا الاتفاق قد تم في العاصمة القطرية، هو مؤشر لا بد من ملاحظته على أن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واللجنة الرباعية الدولية، ستمنح هذه الحكومة بعد تشكيلها الدعم المطلوب، اللاعب القطري لا بد من أنه ضمن مثل هذا الدعم قبل أن يتولى الترحيب بعباس ومشعل للتوقيع على هذا الاتفاق من خلال العلاقات القطرية الأميركية التي لم تعد تخفى على أحد، وما كان بإمكان قطر أن تقوم بهذا الدور، لولا أنها تمكنت من الحصول على موافقة مؤكدة من الأطراف الدولية المؤثرة.
إلاّ أن إعلان الإدارة الأميركية في هذه الموافقة، يتجاوز حدود العلاقات الأميركية القطرية، ويمتد ليصل إلى العلاقات الفلسطينية الداخلية، ذلك أن الأطراف التي كانت تعرقل جهود المصالحة في الوسط الفلسطيني، كانت دائما ما تبرر عدم التوصل إلى توافقات بشأن إنهاء حالة الانقسام، إلى ضغوط أميركية على عباس، كان من شأنها أنها عرقلت التوصل إلى مثل هذه الاتفاقات. صحيح أن مثل هذه التقولات ليس لها من أساس، ذلك أن عباس واجه كافة الضغوط الأميركية والأوروبية والإسرائيلية، وتوجه إلى مجلس الأمن مطالباً بعضوية فلسطين الدائمة في المنظمة الدولية، ولم يستجب للضغوط السياسية والمالية، كما أنه ظل متمسكاً باشتراطاته المتعلقة باستئناف العملية التفاوضية، على الرغم من كل تلك الضغوط الهائلة التي انصبت بلا هوادة على القيادة الفلسطينية بهدف التخلي عن هذه الاشتراطات، وهذا يعني ببساطة شديدة، ان وجود مثل هذه الضغوط، لا يعني الاستجابة لها، وما زال بإمكان القيادة الفلسطينية التصدي لها، آخذة بالاعتبار المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وهو ما أكدته الأحداث خلال المسيرة التفاوضية التي لم تتكلل بالنجاح بسبب العراقيل الإسرائيلية واستبدال حكومة نتنياهو الفاشية، العملية الاستيطانية، بالعملية التفاوضية.
الموافقة الأميركية، ستؤثر إيجاباً على إتمام المصالحة الوطنية، وهي، أيضاً، تضع المعرقلين للمصالحة في الزاوية، كونها لم تعد صالحة لتبرير هؤلاء لعرقلتهم لعملية المصالحة، ولم يعد بإمكانهم اتهام القيادة الفلسطينية بخضوعها للضغوط الأميركية حول المصالحة، بعدما رفعت واشنطن "الفيتو" عنها، وهو الأمر الذي وضع هؤلاء في وضع حرج وبحثوا عن مبررات إضافية أخرى، لاستمرارهم من حيث المبدأ، إنهاء حالة الانقسام، فبحثوا عن أسباب قانونية ودستورية، لتبرير وقوفهم في وجه الجهود الطيبة لإنهاء حالة الانقسام، وكشفوا عن حقيقة مواقفهم إزاء المصالحة الوطنية، والتي ترتبط بمصالح فئوية وشخصية بشكل أساسي، رغم التبريرات التي تصطنع للتغطية على هذه التبريرات المصطنعة.
ويبدو أن الخلافات التي بدت بوضوح لا يقبل الشك في أوساط حركة "حماس"، إزاء توافقات القاهرة، ثم اتفاق الدوحة، قد بدأت تنحسر في الأيام الأخيرة، لصالح موقف إيجابي موحد لدعم ما تم الاتفاق عليه بين عباس ومشعل في الدوحة، ليس فقط لأن هذه الخلافات كشفت عن شروخ في وحدة حركة "حماس"، وتباين التيارات المختلفة، المتعلقة بالخارج والداخل، وخلافة رئيس المكتب السياسي للحركة، بل لأن هناك فيما هو لاحق أثناء ترجمة الاتفاق على الواقع، العديد من العراقيل والمشكلات الكبيرة، التي يمكن لها أن تعيق عملية المصالحة، وبدون أن تكون خلافات "حماس" هي السبب الوحيد المعلن لهذه الإعاقة، وعند الوصول إلى هذه الملفات، لتشكيل الحكومة، أو ملف الانتخابات، على سبيل المثال، يمكن اختلاق خلافات حادة تعيق استكمال هذه الملفات، وبحيث لا تصل المصالحة إلى نهايتها المطلوبة، وعندها يتم تبرير ذلك بخلافات حول هذه الملفات، وليس لأسباب أخرى!
الناطق باسم حركة حماس، القيادي اسماعيل رضوان، حاول أن يلقي بالكرة في ملعب القيادة الفلسطينية، وعباس تحديداً عندما دعا إلى الإسراع إلى تشكيل الحكومة وفقاً لاتفاقي القاهرة والدوحة، منتقداّ التلكؤ في هذا التشكيل، معتبراً ذلك تهرباً وعدم جدية من قبل عباس، فحركة حماس موحدة في موقفها الملتزم باتفاق الدوحة ـ حسب رضوان ـ وان تأجيل انعقاد الاطار القيادي لمنظمة التحرير والتشكيك في مواقف الحركة تهرباً من الالتزام من قبل عباس بتوافق الدوحة.
وكان من الممكن أن يبدأ أبو مازن فعلاً بعقد مشاورات لتشكيل الحكومة العتيدة، وقيل إنه فعل ذلك فعلاً، مع أننا نعتقد أنه لم يفعل، فهو كان ينتقل من عاصمة إلى أخرى، ويستقبل وفوداً من هنا وهناك طيلة الوقت، لكنه لو فعل، لاصطدم من الناحية العملية بأكثر من "فيتو" من هنا، وآخر من هناك، في حال لم تكن النوايا جدية لجهة الالتزام عن قناعة باتفاق الدوحة، فالمسألة ليست شكلية، وليس المهم إجراء مشاورات مع الفصائل وقوى المجتمع المدني، بقدر ما هو وجود مناخ إيجابي داعم لهذا التشكيل ولهذا التوجه، مع أننا ندرك أن تشكيل مثل هذه الحكومة سيكون بالغ الصعوبة، ذلك أن توافق حركتي فتح وحماس على شخوص هذا التشكيل لن يكون سهلاً، ومن الواضح أن عباس سيختار تلك الشخصيات التي تقبل بها الحركتان لنجاح التشكيل الوزاري، أي من الشخصيات التي ظلت "غائبة" عن الأزمة، وظلت مواقفها أقرب إلى الميوعة والترضية، شخصياً نسيت أنه كان يجب أن يكون لها موقف إزاء كافة القضايا المطروحة باستمرار، لكنها تغيبت عمداً، للحضور في يوم التشكيل الوزاري بقوة، فهي شخصيات تتمتع بقدر كبير من التماهي "والحظ"، أيضاً، وفي حال اختيار عباس هذا النهج في تشكيل حكومته، فإنه سيكون من السهل عليه إنجاز مثل هذا التشكيل الذي سيرضي الفصائل الأساسية، لكنه بالتأكيد لن يكون مرضياً للجمهور الذي يتطلع إلى تشكيل حقيقي من شخصيات التزمت بمواقفها الواضحة المحددة، وربما دفعت ثمناً لهذه المواقف.
وإذا ما فشلت مثل هذه الحكومة، فإن مجرد هذا التشكيل سيعتبر "إنجازاً" لبعض الداعمين للمصالحة، إذ من وجهة نظر هؤلاء، فإن زوال حكومة فياض، هو الهدف الرئيسي من وراء مثل هذه المصالحة، ولعل وبعد هذا الإنجاز، قد لا تخطو الجهود نحو استكمال ملفات المصالحة أية خطوة جديدة، ذلك أن الإطاحة بفياض وحكومته، هو أمر متوافق عليه من قبل النافذين في الطرفين، حركتي فتح وحماس، أما الخطوات اللاحقة، فدونها العديد من الخلافات والمشكلات، وعلى الأغلب فإن الأمر سيتوقف عند حدود هذا الإنجاز العظيم!