المثقف الفلسطيني...في تواطئة مع المستعمِر

أما السؤال الذي لا إجابة له: لماذا المتواطىء هو مثقف المستعمرات؟ ربما لأن السياسي/الاجتماعي /الطبقي أسس لتبعية بنيوية امتدت حتى لما بعد الاستقلال الشكلي. لتواطؤ المثقف ثلاثة مكوِّنات: خارجي وموضوعي وذاتي، وثلاثتها ترتكز على وتنبع من تفاوت تطور ومن ثم صراع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية[1] مقودة بقواها الطبقية.المكون الخارجي/البعد العالمي في الحالة الفلسطينية هو هشاشة التشكيلات العربية التي استدعت الاستعمار (الجاهز بالضرورة حتى دون استدعاء) ولا تزال، الأمر الذي جعل من فلسطين شظية صغيرة من جهة، وتواصل الضعف العربي مما ولَّد في خلد المثقف ابدية الإنسداد.

وخاصة على مدار القرن الأخير كفترة انتقالية تبدو كأنها القاعدة لا الاستثناء. ثم فرادة الحالة الفلسطينية باستعمار استيطاني لم يُنتج الإبادة الشاملة(كالولايات المتحدة وكندا) وخلق حالة لجوء (بعكس جنوب إفريقيا) وخلق حالة التفكيك الشامل والمتواصل للأرض والمجتمع مما انعكس على الثقافة توزعا لا تكاملاً، ورجعة هذا للتفاعل سلباً مع العمق العربي الذي عجز عن تحرير فلسطين وصولاً إلى التوازي الأكثر سلبية بين استقواء العولمة وانحسار الثورة العالمية بمضمونها الشيوعي.المكون الموضوعي: متأتٍ عن التبعية البنيوية القائمة على حوامل طبقية ونخبوية بدءأ من المشايخ مع الاستعمار العثماني، فالأفندية مع الاستعمار البريطاني ثم الكمبرادور الموزع حسب تقاسم شظايا فلسطين (الأردن، الكيان، مصر)...الخ.

وخطورة تشظي الشظية (فلسطين نفسها) في فقدان القاعدة الإنتاجية كحامل لإعادة إنتاج المجتمع لنفسه ماديا ومعيشياً وتواصل تناسله بيولوجيا. ثم دخول العامل الخارجي وهونفسه مسبب الطرد ليقدِّم الريع كمصدر معيشي (الأونروا) الأمر الذي لم يساهم في إعادة تركيب البنى الطبقية بهدف تغييب اية فرصة إعادة تركيب مشروع وطني وبلورة حركة سياسية موحدة كحامل له. قد نلحظ هذا في تعدد الحركات السياسية الفلسطينية التي عجزت دوماً عن تشكيل جبهة وطنية مما أبقى على منظمة التحرير كصورة عن جامعة الدول العربية. وإذا صح ان كل مثقف هو عضوي لطبقة، فذلك ربما يسعفنا في قراءة تواطؤ مثقف من مجتمع متشظي طبقيا يفتقر لقاعدة إنتاجية ويعيش من رضاعة قنوات ريعية متعددة المصادر والأهواء.

غياب بنية إنتاجية يؤدي للاعتماد على الريع، وهذا يقود إلى التواطؤ ويقود المثقف إلى حامل لقيمة تبادلية تقوده لتواطؤ التبادل مع المستعمِر عبر تاريخ طويل من تربيته على التواطؤ مع الكمبرادور. المكون الذاتي كحصيلة للعلاقة الجدلية بين المكونين الآخرين الذين يمكننا اعتبار مناخ النشأة والتربية سواء كوقع معيشي أو كحامل لخطاب المستعمِر حيث يتم حقن المثقف به قبيل بلوغه مرحلة ضبط الوعي واالتحكم به مما يجعل هذا التضمخ جرثومة تغيب وتحضر ولا يقوى على اجتثاثها سوى المثقف النقدي والمشتبك معاً.يُقدم الواقع الريعي التابع والمآل المهزوم سياسياً واجتماعياً من جهة، وانغماسه في تزكية خطاب المستعمِر من جهة ثانية، مناخ حصار وانسداد أمام المثقف وخاصة إذا ما اعتمد قراءة الواقع على أساس اليومي وقصير الأمد وليس على الأساس التاريخي، وهو في هذه الحالة يسقط في تحول حياته إلى حلقات من تقطيع اللحظة فالعمر فالتاريخ، وهذا تكثيف لاستدخال الهزيمة العامة في البنية الوعيوية الشخصية مما يجعل التواطؤ مع المستعمِر أمراً عاديا.ومع أن استدخال الهزيمة ليس قدراً بحد ذاته، ولكن ما يعطيه فرصة الشدة والامتداد هو غياب أو هشاشة الحوامل الموضوعية للنقد والمقاومة مما يُتيح للمثقف الشعور بأن حالته الفردية ونزوعه الفرداني أمراً عادياً، وهو المناخ الذي يُشعره بأن دوره هو البحث عن الأمان الشخصي فيقايض وعيه وثقافته كقيمة تبادلية من أجل سلة ضماناته. يكون هذا سهلاً وطبيعياً لغياب قوة المثال وقوة المراقبة وقوة التحدي بالخطاب وقوة المحاسبة وطنياً كل هذا إلى جانب وجود وحضور المستعمِر كقوة مادية وقوة خطاب معاً يدفعان هذا المثقف دوماً إلى الأدنى ويُشعرانه أنه كلما غطس أعمق فهو في وضعه الطبيعي.

ولا تنحصر الإشكالية هنا في دور السياسي في شراء الثقافي طالما المجتمع باسره يعيش على الريع، ريع مقايضة الثقافة بالمال، ولا فقط في استدخال السياسي للهزيمة، بل كذلك في انشباك المجتمع نفسه في شرك التطبيع وهو الوضع الناجم عن تحويل عدد أكثر وأكثر من المجتمع إلى معتمد على الريع مما يخلق ثقافة ريعية وخطابا ريعياً تلقحه به وتتلاقح رجوعيا منه وبه منظمات الأنجزة، وسلطة الأنجزة، ضمن دائرة/دوامة رقص شيطاني حول نار هائلة وبخور يزكم الوعي مما يعيد ويكرر دورة استدخال الهزيمة ويجعل اي نقد لها كما لو كان مسَّاً من الجنون. ويكون المآل هنا إماتة السياسة ولو إلى حين، اي إماتة المقاومة. وإلا بماذا نفسر عدم تحرك اي شيىء في هذا الشهر بعد تصريح محمود عباس بأن ليس لنا حق تاريخي، بل وطني، في فلسطين! وإذا اعتبرنا أن التجمع الأساس للفلسطينيين هو في الضفة والقطاع (قبل وبعد اوسلو)، فطبيعي أن نرى انعكاساته على مثقفي مختلف الساحات. ألم ينتقل اعتبار عضوية الكنيست خيانة إلى اعتبارها حالة وعي سابق حتى لمرحلته، وإلى قيام مثقف من الشتات[2] بتسويق مرشحي الكنيست، وعقد علاقة لواط بين منظمة التحرير والبيت الأبيض، واللواط بالطبع لا يُنجب.

ودخول مثقفين في حلقات حوار مع مثقفين يهود لا تختلف عن حلقات المفاوضات بل مهدت لها طوال عقود اسفرت عن تبرير تقاسم الوطن مع العدو. لقاءات امتدت من جامعة كولومبيا إلى اوسلو فكوبنهاجن وخرج منها المثقف في حالة تواطؤ تنفي الحياة مقاومة بمفاوضات، والحزب بالأنجزة والوطن بمكان. الا يفسر اعتماد الريع بديلاً للانتاج بعض هذا التواطؤ؟. يقوم تواطؤ المثقف على أو ينتج من تواطؤ الواقع المادي (قطاعات الإنتاج) مع الريع، وتواطؤ القيادة السياسية مع المستعمِر (بتعدده)، قيادة المنظمة مع المركز والكيان وتواطؤ الوعي المشوه والهزيل مع الخطاب الغربي بمكشوفه المتعالي ومستوره الخبيث.

هذه التواطئات المتداخلة والتي تغذي بعضها بعضاً هي وليدة حالة من الانحطاط سمحت للسيطرة بالتحول إلى هيمنة تعيد إنتاج نفسها طالما ليست هناك فَلَتات سيوف. فهي تشترط لتقطيع حلقاتها مثقفاً يشتبك ليخرج على كافة قيود السيطرة بدءاً بخطاب ذي عمق أممي مقابل العولمة/السوق وقومي مقابل القطرية ووطني مقابل الخيانة الطبقية. مثقف يخرج على الحزب المعلَّب بحزب يولد من رحم الطبقات الشعبية ويُحكم ويحتكم إليها، يخرج على الفردانية بالعودة للروايات الكبرى وعلى المابعد بالواقع، وعلى الفرد بالطبقة، وعلى الذكورية بنسوية التحرر والطبقة، وعلى استجداء الاعتراف وزعم ولادة فلسطين من الصهيونية بحقيقة الوجود الموضوعي الفلسطيني وبأن الحياة مقاومة لا المقاومة وليدة الغزوة الصهيونية.

[1] لا ينفي هذا دور نمط الإنتاج ولكنه كمجرد ليس هو الحاسم في الصراعات حيث محركها هي علاقات الإنتاج بما هي ايضاً مجرداً يكتسب زخمه باصطفاف الطبقات.[2] قام دوارد سعيد بتقل رسائل بين البيت الأبيض وعرفات، وتزكية ترشح عزمي بشارة للكنيست وأخذ ياسر عبد ربه إلى البيت الأبيض.