حين تدق إسرائيل طبول الحرب

ثمة من يتواطأ، ربما عن حسن نية، على الحقائق التي تشير إلى رغبة وحاجة إسرائيل لشن عدوان على قطاع غزة، بذرائع أو بدونها.

من الواضح أن هذا البعض يدرك أبعاد ما يجري، في الدوائر الإسرائيلية، من ترتيبات تنتظر فقط التوقيت المناسب لشن مثل هذه العملية، لكنه أي هذا البعض، يعتقد أنه من غير الضروري إرباك الساحة الداخلية وخلق حالة من القلق والذعر لدى الجماهير الفلسطينية، التي لا تنقصها حساسية التعرف ولو عبر التجربة الطويلة، على ما تقوم به الحكومة الأكثر تطرفاً في إسرائيل.

ولأن الفلسطينيين بصفة عامة، وفي الأراضي المحتلة منذ عام 67 على وجه الخصوص، يعرفون تمام المعرفة الطبيعة العدوانية لإسرائيل، ومستعدون كل الوقت للصمود وتحمل تبعات نضالهم من أجل حريتهم، كان على القيادات السياسية أن تتوخى الصدق والصراحة والوضوح مع جماهيرها.

لا يتصل الأمر بما ينتج من أخطاء المحللين السياسيين، أو غير السياسيين، فالمسألة هنا لها علاقة بالقدرة على توظيف وربط المعطيات، ووضعها في سياق تحليلي صحيح لا يكتفي بالبحث المنطقي، أو الإسقاطات الذاتية.

الحرب السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة، وأدت إلى استشهاد أكثر من ألف وخمسمائة إنسان، وأكثر من خمسة آلاف جريح، وبضعة آلاف من البيوت المدمرة جزئياً أو كلياً، تلك الحرب، شكلت سابقة مشجعة لإسرائيل التي ارتكبت عدداً من الجرائم البشعة والانتهاكات الجسيمة، بدون أن تلقى عقاباً، فعدا عن التواطؤ الدولي حتى العربي فإن تقرير غولدستون قد طوته السنون. منذ بعض الوقت فإن إسرائيل تتابع استعداداتها لشن عدوان على قطاع غزة، وتلفق المزيد والمزيد من المبررات والذرائع، التي قد يعتقد البعض معها، أن القطاع يوشك على امتلاك أسلحة نووية تهدد السلام العالمي.

ويبدو أن هذه الاستعدادات قد انتهت إلى قرار من حيث المبدأ بضرورة شن مثل هذه الحرب، ولم يتبقَ سوى تحديد توقيتها وحجمها، وآليات خوضها، فضلاً عن المزيد من الذرائع التي تعمل إسرائيل على استدراجها وفبركتها.

علينا أن لا ننسى أن الحرب السابقة على القطاع توقفت من طرف واحد هو إسرائيل، وليس نتيجة اتفاق لوقف إطلاق النار، الأمر الذي أبقى الباب مفتوحاً أمام إمكانية معاودة العدوان.

ومنذ ذلك الوقت كانت إسرائيل هي المبادرة في معظم الحالات، لتصعيد العدوان، فيما واصل الفلسطينيون ضبط النفس، إدراكاً منهم لطبيعة المخططات الإسرائيلية.

ساذج السؤال عن دوافع إسرائيل لشن مثل هذه الحرب، ولكن لا بأس من التذكير بجملة من المعطيات والأسباب. أول هذه المعطيات يشير إلى أن نظرة إسرائيل لأمنها الإسرائيلي أو التكتيكي لا تقبل بأي حال أن ينشأ في خاصرتها أي تهديد بعمل عسكري ضدها، وهي تدعي أن قطاع غزة قد تحول مرة إلى ترسانة عسكرية، ومرة أخرى إلى قاعدة إيرانية، أو ملجأ لتنظيم القاعدة، من الواضح أن إسرائيل تواجه تهديدات محتملة، من أربعة أماكن، من قطاع غزة، ومن لبنان وإيران وربما من سورية في حال تأزم الوضع الداخلي أكثر مما هو حاصل. فإذا كانت إسرائيل ستختار وهي تختار المجابهة، فإنها ستبدأ بالحلقة الأسهل والأضعف وهي قطاع غزة، ليشكل ذلك مؤشراً على وجهة لاحقة، وحيث لا تستطيع إسرائيل أن تعيش طويلاً تحت تهديد سلاح المقاومة أو غيره.

ثانياً: إن إسرائيل التي تركب أعلى قمم التطرف، هي إسرائيل عدوانية بامتياز، وهي بشنها الحروب العدوانية إنما تعبر عن طبيعتها.

أنظروا إلى أنواع وأشكال العدوان والعنصرية التي تمارسها إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، وحتى داخل أراضي 1948، فكيف لها أن تتسامح مع جزء فاعل ومهم من الشعب الفلسطيني؟

إن هذا التطرف الذي يصل إلى حد الاستعداد لتحمل المسؤولية عن فشل الجهود الدولية الرامية لتحقيق السلام، أو حتى لتأمين شروط استئناف المفاوضات، لا يمكن له أن يتعايش مع شعب يطالب بحقوقه وحريته، وقد يصل الأمر إلى حد ارتكاب جرائم من مستوى الترانسفير الجماعي، كما يظهر في السلوك الإسرائيلي ضد عرب النقب، وضد الفلسطينيين في حيفا ويافا والمثلث، وضد الفلسطينيين في المناطق المحاذية لجدار الفصل العنصري، وتلك التي يصادرها الجدار.

ثالثاً: كان من مصلحة إسرائيل أن تستمر حالة الانقسام الذي يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية، ويجعل نظاماً هنا يختلف ويتصارع مع نظام هناك، ولذلك فإن عدواناتها على القطاع كانت محسوبة، وبما لا يلحق ضرراً بواقع الانقسام.

الآن ومنذ بعض الوقت، أصبح خيار إنهاء الانقسام الفلسطيني خياراً حقيقياً، بغض النظر عن العوامل التي ساعدت في دفع الأمور نحو هذه الوجهة، وبالتالي كلما تقدمت عملية المصالحة، كلما اقتربت إسرائيل أكثر من تحديد التوقيت الذي يناسبها لشن مثل هذا العدوان.

في هذا الإطار وفي ضوء الفشل المتوقع للمفاوضات الجارية في عمان، والتي حدد لها الرئيس محمود عباس سقفاً زمنياً، هو السادس والعشرون من الشهر الجاري، سيضطر بعده للتركيز على أولوية استعادة الوحدة، فإن الاحتمال الوارد هو أن إسرائيل لن تتأخر في تحديد الوقت لارتكاب جريمتها.

رابعاً: إذا كانت إسرائيل تعيش حالة من الإرباك والقلق إزاء تطورات الوضع العربي، والتغييرات المرتقبة التي تحمل لها مؤشرات غير سارة، فإنها لا تستطيع الانتظار طويلاً حتى تستقر أوضاع المنطقة على ما هو مقبل، وليس في مصلحتها.

نعم تقيم إسرائيل حساباً للتغييرات التي وقعت خصوصاً في مصر، وهي تتوقع ردود فعل قوية في حال شنت عدواناً على قطاع غزة، ولكنها تستبعد أن تشن الدول العربية حروباً ضدها.

إن مرحلة القلق والارتباك التي تسود الشارع والأنظمة العربية، هي الفرصة المناسبة لإسرائيل كي تنفذ ما ترغب أو بحاجة لتنفيذها، فإنها تجد نفسها أمام ظروف أشد صعوبة.

خامساً وأخيراً: تضمن إسرائيل غطاءً ومواقف أميركية تحميها من ردود الفعل المحتملة، ذلك أنها في عام الانتخابات الرئاسية، قادرة على ممارسة أبشع أنواع الابتزاز للإدارة الأميركية وللمرشحين من كلا الحزبين.

إن مثل هذه التوقعات لا ينبغي أن تدخل الضعف في نفوس السياسيين والمقاتلين والمواطنين، بقدر ما أنها تستدعي التحصن بالوحدة الوطنية، وتحسين بل تغيير آليات وأشكال التعامل مع الجماهير التي تشكل الحصن الأول، والدرع الحامي للحقوق الفلسطينية، يرافق ذلك حملة إعلامية مركزة تستهدف فضح مبررات ودوافع العدوان الإسرائيلي المرتقب على الشعب الفلسطيني.