الميزانية: الشرائح الضريبية .. والشرائح 'الشعبوية'!
ما زالت الفوضى تتحكم بردود الفعل على الإجراءات الاقتصادية التي من المقرر اتخاذها لمواجهة أعباء الميزانية الفلسطينية الجديدة، ولعل المسبب الأساسي لهذه الفوضى هو رئيس الحكومة ذاته، سلام فياض، الذي بالغ في الشفافية وإطلاع الرأي العام على مفاصل سياسات الحكومة، وباتت مسألة نقاش الميزانية على بساط البحث على كافة المستويات الشعبية، وباتت المصطلحات المالية مفردات تتكرر على ألسنة الجمهور وكأنه كله يعمل في الاقتصاد والأعمال والبنوك والاستثمار والتنمية، هذا الرجل، فياض، مشكلة بحدّ ذاتها، ولعل تجربته 'الغربية' هي منبع التزامه بالشفافية المطلقة، وبحيث بات شعار 'المشاركة الشعبية' في صناعة القرار، هو أساس عمل حكومته، وبينما ترفع جهات عديدة، رسمية أو شبه رسمية، أو منظمات أهلية، هذا الشعار، فإنه ظل حبيس الكلمات والملصقات وورش العمل.. هذا الرجل، فياض، ترجم هذا الشعار على الأرض، فكانت المشكلة!
هذا الرجل، أخضع بنود وتفاصيل المقترحات بشأن الميزانية، للنقاش الحر، داخل حكومته وخارجها، ولأنها ميزانية أزمة، فإن الأمر كان يستلزم عدة عمليات جراحية لرتق مفاصلها، هي ميزانية تحد، تبحث عن حلول خلاقة، توفق بين الإمكانيات المتاحة، والتنمية المالية والمجتمعية، وككل جراحة فعالة، فلا بد من معاناة ونزف للدماء، كمقدمة للشفاء التام، غير أن الرجل، فياض، أمعن في طرح كل جوانب الأزمة على الرأي العام، ظناً منه أن الجمهور سيقتنع بضرورة الخروج من الأزمة عبر سلسلة من الإجراءات الصعبة، لكن الضرورية، وهنا يخطئ فياض مرةً أخرى!!.
وكان أول تداعيات الأزمة المتعلقة بالميزانية على المستوى الشعبي، اقتراح قانون جديد للتقاعد المبكر، وما نشر حوله من تفاصيل أشارت بشكل قاطع إلى أنه لم يكن منصفاً، هاجت الدنيا، دنيا الموظفين بشكل خاص، واستجاب فياض لرد الفعل، وأعلن على لسانه ولسان مساعديه، أن هذا الاقتراح تم تداوله في إطار البحث عن حلول، إلا أنه، وعلى ضوء ما يمكن أن ينتج عن تطبيق مثل هذا القانون، من أزمات، فإن هذا الاقتراح لم يعد قائماً وتم طيه، مع ذلك، فإننا نعتقد أن رد الفعل على هذا الاقتراح، كان محقاً، إلا أنه وفي سياق ذلك، جلب المصطادين في المياه العكرة، وهم للأسف، كثر، استثمروا القضية 'السابقة' لدى الموظفين، لتجديد الحرب على الرجل، متخذين من هذا الاقتراح الذي طوي وسيلةً لحشد مواجهة مع فياض، كنا نعتقد أنها طويت بعد الانشغال بالمصالحة، وهي ذات القوى التي اتخذت من فياض وحكومته، لأكثر من عامين، الخصم الأول والوحيد، استنزفت نفسها في صراع مخز، حيث لا جدوى ولا طائل ولا أمل، لأن الرجل، فياض، ليس المشكلة، وإنما هو بعض الحل على الأقل.
وفي تطور مثير للغرابة ومدعاة للدهشة، الدعوة لحملة شعبية ضد حكومة فياض، لم يجرؤ على مثلها، هؤلاء المصطادون في المياه العكرة من بعض حركة فتح، وبالفعل، التفّ العشرات من المتظاهرين يقرعون الطناجر في مدينة نابلس حول شعارات 'المواجهة' ضد ما قيل عن الإجراءات التقشفية الهادفة إلى الخروج من الأزمة المالية التي تعانيها السلطة الوطنية الفلسطينية.. هذه التظاهرة، مشروعة من دون أدنى شك، لجهة حقوق الرأي والتعبير والتظاهر، وهي مشروعة أيضاً، لأن من حق الجمهور، أن يتمتع بالخدمات والحق في العمل والسكن وكل وسائل العيش الكريم، وهي مشروعة أيضاً وأيضاً، لأنها شكل من أشكال المشاركة الشعبية في صنع القرارات الوطنية. إلاّ أن الاستخدام 'الشعبوي' لآلام ومشاكل الشعب، هو الأمر غير المشروع، خاصة عندما تأتي مثل هذه الدعوات تحت شعارات تعزيز الصمود والوحدة الوطنية ومجابهة التحديات وضمان الحقوق الاجتماعية والديمقراطية، وهي شعارات صائبة غير أنها تنطوي على خداع من حيث توظيفها لخدمة الصراعات السياسية الداخلية في الوسط الفلسطيني، وانتظاراً لمكاسب فئوية محتملة في حال إتمام المصالحة الوطنية، وكأنما وضع حكومة فياض في عين الهدف والمواجهة، هو معيار الحصص القادمة التي لا ترغب بعض الأطراف في تفويتها.
ولا شك في أن معيار إيجاد حل للأزمة المالية المستفحلة، هو المواءمة بين الإجراءات وتأمين متطلبات العيش والصمود، وهو أمر بالغ الصعوبة في ظل هذا الوضع الذي يدرك الجميع كافة مفاصله، كما أن مثل هذه الإجراءات قد يلحق الضرر بمصالح بعض الفئات، وهنا تطرح أسئلة عديدة حول الأولويات، فعلى صعيد الضريبة مثلاً، فهل يتم وضع نظام الشرائح الضريبية وفقاً للشريحة العمودية أم الشريحة الأفقية الأولى، التي تعني في شكلها البسيط، الضريبة التصاعدية على أرباح الشركات ومؤسسات القطاع الخاص على اختلاف مجالاتها، أما الثانية من الشرائح، الأفقية، فتعني توسيع دائرة الضريبة لتشمل قطاعات أوسع، ابتداء من الأفراد، وهذا يعني أن الضريبة المحددة ستطال قطاعات واسعة من الجمهور، في حين أن الشريحة العمودية تطال كبار التجار والمساهمين والمتعاملين بالتجارة والتمويل والاستثمار، ولكل شكل من هذه الشرائح عيوبها وإيجابياتها، وهنا يأتي دور الحكومة لاتخاذ القرار الذي يجب ألا يؤدي إلى ضرر واسع، حتى لو شمل هذا الضرر قطاعاً أضيق، وإلى حين ذلك، سيتم استثمار تردد الحكومة لتحريض الجميع عليها، وربما هذا ما دفع رئيس الحكومة إلى الدعوة لمؤتمر شعبي أو حوار وطني شامل، لتحديد سبل الحل.
إن القانون يلزم الشركات بإعلان ميزانيتها كل عام، وفي تصفح سريع للميزانيات المنشورة، أو أخبار العلاقات العامة المنشورة في وسائل الإعلام المختلفة، تشير في معظم الأحيان، إلى تحقيق هذه الشركات والمؤسسات أرباحاً عالية، تفاخر بها هذه الشركات، كما تفاخر بها كجمهور، باعتبار ذلك تشجيعاً على تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني، إلاّ أن هذه الأرباح، تجد في المقابل، تزايد عدد العاطلين عن العمل، وتزايد نسبة ومعدلات الفقر، وتهرباً من الضرائب وتصاعداً في التوترات الاجتماعية، فما العيب في هذه الحال، لو أن سياسة التقشف جرت على الشركات الرابحة هذه أكثر مما تجري على القطاعات الشعبية الأوسع، وما هو الضرر، فيما لو خلصت النوايا، لو أن الضريبة التصاعدية ألزمت هذه الشركات بالانصياع لها وفقاً لإجراءات التقشف التي يجري الحديث عنها، والتي يجب أن تبدأ من الحكومة نفسها.
ولعل النقاش الوطني المحتدم، حول الميزانية المالية العامة للسلطة الوطنية، هو إحدى ثمار تلك السياسة الشفافة التي التزمت بها حكومة فياض، فالقرارات لم تعد تؤخد بين جدران المقرات وصالات الاجتماعات، بل باتت على قائمة اهتمامات ونقاشات الرأي العام، وهو أمر محمود بكل المقاييس، حتى لو كانت هناك شائبة الاستثمار الشعبوي لمصالح فردية أو فئوية، ذلك أن وضع شعار 'المشاركة الشعبية' قيد العمل الفعلي، هو أحد أهم إنجازاتنا الوطنية، وحكومة فياض هي التي رسخت هذا المفهوم ونقلته من الخطابات والتصريحات إلى ميدان العمل!!.