في قلب الحريق

adli_sadikkk

من بين البلدات الجريحة النازفة، في سوريا الحبيبة، تلك التي أعرف بعض أهلها وبعض تاريخها. فمن لا يعرف تاريخ بلد، لن يتمكن من القراءة الصحيحة، للأحداث الدائرة فيه!

في حوران، المنطقة التي سمّاها الأقدمون حسب التعريب الفصيح "أهراء" روما، أي مستودع حبوبها، هناك بلدة داعل، على طريق درعا ـ دمشق القديم. والبلدة، كما كل مدن وبلدات وقرى وأرياف الثورة السورية، لا تنتفض من أجل باطل، ولا تعاند إلا غازياً أو مستبداً. فعلت ذلك مع العثمانيين وتميزت بصلابتها في معركة شهيرة معهم. وفي العام 1926 كانت نقطة التقاء الثوار، للهجوم على معسكر المستعمر الفرنسي فيها. كانت نتيجة الهجوم الذي بدأ مع الغروب، واستمر حتى طلوع الفجر، بقيادة شيخ يُدعى الخليلي (سماه الفرنسيون رئيس عصابة، مثلما يسمى الأسديون أحفاده اليوم)؛ أن تحقق للناس طرد الطغاة من داعل، وتدخلت الطائرات الفرنسية حديثة التصنيع آنذاك، لتقصف البلدة، وتبدأ تجربة الناس في المكان، مع القصف، على مر العهود!

البلدة آرامية موغلة في القدم، سهولها خضراء، حُمر مواضيها، بيضٌ صنائعها، ولها في ذمتنا دينٌ مر عليه أربعون عاماً، حيث هاجمها الطيران الإسرائيلي، ولم يبرح سماءها إلا بعد أن ظن أنه أبادها وقتل جميع أهلها. كانت ذريعة الهجوم الجوي، هي وجود الثورة الفلسطينية فيها، وكان ذلك على أثر عملية ميونخ التي قُتل فيها الرياضيون الإسرائيليون في تشرين الثاني (أكتوبر) 1972. يومها، جرى تكثيف الهجوم، بسبب ما قيل عن وجود الختيار "أبو عمار" في داعل. وقيل بعد الهجوم، من قبيل المبالغة، ان عدد شهداء داعل بلغوا أكثر من 600 لكن الرقم الحقيقي، الذي علمته من أهالي البلدة بعدئذٍ، كان نحو ثمانين، احتسبتهم داعل عند ربهم شهداء، فداءً لفلسطين وثورتها.

هذه البلدة المعطاءة، غلالاً وخيراً، ودماً زكياً، على طريق الحياة والحرية؛ تتعرض الآن لهجوم بربري يرتدي لبوس القومية ورمزياتها. ومن المفارقات أن الأماكن الأشد تعرضاً للنار الآن، هي تلك التي توفر لسوريا طعامها وثرواتها. فمن الحسكة ودير الزور، يُستخرج البترول، ومعه المحاصيل الاقتصادية كالقطن والعدس وفول الصويا. وفي الرقة، انتاج الطاقة الكهربائية، حيث يقوم سد الفرات. أما حوران "أهراء روما" فإنها تطفح بخيرات الأرض، ويقول المؤرخون، أن العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، جعلوا من حوران مصدر غذاء الشعب الألماني!

الغريب والصفيق، في منطق شبيحة النظام السوري وأبواقه النشاز، أنهم يماهون بين سوريا والنظام فيها، فيقول الأرزقي جبريل ـ مثلاً ـ أننا نتناسى حقيقة أن الثورة الفلسطينية انطلقت من سوريا. وكأننا انطلقنا من حضن بشار الأسد، أو كأن هناك أية انطلاقات أو استئنافات للنضال انطلاقاً من خيمة بشار ثم الى الحدود. ويقول بشار نفسه، إن سوريا هي العروبة، لذا فإن تعليق "عضويتها" هو التجديف على هذه العروبة، ما يعني أنه يرى نفسه سورية، ويرى سوريا شخصه، وأن عزل النظام فيما هو يحرق سوريا وشعبها، هو المظلمة الكبيرة للسوريين وبلادهم، وليست المظلمة هي الحرق والقصف دون تمييز!

في شريط مصور، بثته التلفزة أمس الأول، يقف جنود النظام، على جثث ضحاياهم المحترقة، والمقطعة إرباً، ويتضاحكون، ثم يطلق واحد منهم دعابة فيقول متظارفاً: "إكرام الميت حرقه" فيتهلل الآخرون حبوراً وزهوّاً. بعد ذلك يطل واحد من شبيحة الفضائيات، ليقول إن ما تتعرض له سوريا هو "مؤامرة استعمارية" وكأن الاستعمار يقتل ويحرق ثم يقف جنوده يتضاحكون فوق الأشلاء، أو كأن التتار أنفسهم، فعلوا ذلك!

هؤلاء لا يحسون بالتاريخ من حيث هو ماضٍ ذو حيثيات وعبر، ولا من حيث هو خط مستقيم يمضي الى الأمام ويسجل. فلو كانوا يعرفون التاريخ، لكانوا ترفقوا قليلاً مع داعل وسواها، ولكانوا تظاهروا بالحزن عندما وقفوا أمام اشلاء محترقة لمواطنيهم، بدل أن يتضاحكوا ويسخروا من الأموات ويقولوا: إكرام الميت حرقه!

الثورة السورية حركة تحرر وطني، مضادة للتتار الجدد بنسختهم المزيدة في وحشيتها، وهي تقاتل من هم أعتى من المستعمرين وأشد قسوة. للأسف يخجل البعض من المجاهرة بالحقيقة، خشية أن يصدق السذج، أنهم يدافعون عن "مؤامرة" استعمارية وتدخل خارجي. والنظام نفسه لا يخجل من الاحتماء بأجانب، ولا من مساندة "أصدقاء" حميمين للولايات المتحدة. الطبيعي أن نجاهر بما يراودنا من خواطر، ومن بينها الترحيب بمن يساعد في وقف السكين الهمجية عن الذبح، وإن كنا نعلم أن المحتلين الإسرائيليين لن يفعلوها، والأمريكيين يعارضون تسليح المعارضة، لأن الدم المسفوك هو دم الأبرياء الذين لم يتدبروا لأنفسهم غيثاً ولا سنداً ويراهنون على أنفسهم ويحتملون من أجل حريتهم، كل هذا الموت في قلب الحريق!