روايات تتحول إلى أفلام وكنفاني الأول

بقلم: بديعة زيدان*

لعل في أعمال الروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني ما يسيل لعاب السينمائيين، فهو الروائي الفلسطيني الأبرز الذي تم تحويل عدد من رواياته إلى أفلام أبرزها فيلم «عائد إلى حيفا»، الذي حوله المخرج العراقي قاسم حول في العام 1981 إلى فيلم سينمائي من إنتاج مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي في سوريا. وتدور أحداث الفيلم صبيحة الحادي والعشرين من نيسان 1948 حين انهمرت قذائف المدفعية من تلال الكرمل لتدك مدينة حيفا. في هذا الوقت كانت سيدة فلسطينية قد تركت ابنها الرضيع (خلدون) في البيت وخرجت تبحث عن زوجها وسط حشود الناس المذعورة، إلا انهما يضطران الى النزوح. تمر الأيام والسنون وتعود الأسرة إلى البيت بعد حرب العام 1967 لتفاجأ بأن خلدون أصبح شاباً يدعى «دوف» (جسد دوره النجم السوري جمال سليمان) وهو مجند في جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد أن تبنته أسرة يهودية استوطنت البيت بعد نزوح 1948. وهنا تبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف الفتى الحقيقة إذ أصر على الانحياز إلى والدته الصهيونية التي تبنته. وفي الوقت ذاته كان الزوج أو الأب يعارض التحاق ابنه الثاني بالعمل الفدائي، ولكن، بعد أن رأى حالة ابنه البكر قرر الموافقة فعاد ليجد ابنه قد التحق بالعمل الفدائي، وتكون المواجهة بين الأخوين.

 

فيلم إيراني

 

تم إنتاج فيلم سينمائي ثان عن الراوية فسها في العام 1994، بعنوان «المتبقي» وهو من إخراج الإيراني سيف الله داد، و من إنتاج إيراني سوري مشترك. وتدور أحداث الفيلم في العام 1948 في أثناء احتلال العصابات الصهيونية لمدينة حيفا ومحاولة إخلاء المدينة وإسكان اليهود المستوطنين، حيث تتلقى صفية، وهي مديرة مدرسة للبنات في غزة رسالة من زوجة ابنها، تبلغها فيها بأن حياة ابنها الدكتور سعيد أصغر أولادها مهددة بالخطر. تعجل صفية بالسفر إلى حيفا لإقناعه بالهرب إلى غزة، لكن الاحتلال يبدأ فجر اليوم التالي. وفي هذه الاثناء كانت طلقات رصاص القناصة، والعربات المصفحة التي تقودها العصابات الصهيونية هي العناوين الرئيسة لشوارع حيفا في تلك الفترة، حيث إطلاق الرصاص والقذائف على المواطنين الفلسطينيين العزل لتحصد أرواح النساء والأطفال والرجال.

يترك الطبيب منزله إلى عيادته لعلاج المصابين والجرحى من منطلق الواجب الوطني، وفي طريق العودة إلى المنزل تطارده عربات القناصة فيستشهد أمام عيني زوجته التي تركت الطفل في محاولة للبحث عن الزوج لتلقى مصرعها بجانبه وعينها معلقة بالحجرة التي ينام فيها الطفل.

يظل الطفل «فرحان» عند أسرة مسيحية مجاورة للأسرة، لكن «شيمون» الضابط الصهيوني المسؤول عن تهجير الفلسطينيين يطرد الأسرة المسيحية ويعطي الطفل لأسرة يهودية قادمة من بولندا، الأم فيها لا تنجب. وتتبناه الأسرة اليهودية، وتطلق عليه اسم «موشيه»، ومع ذلك لم تتوقف محاولات استعادة الطفل بل استمرت من خلال جدته صفية التي لازمت الطفل بصفة خادمة، إلا أن محاولات استعادته باءت بالفشل.

يصل الفيلم إلى ذروته في الجهاد الفدائي والتضحية بالنفس عندما تأخذ الجدة من زوجها الصحافي المناضل حقيبة فيها قنبلة موقوتة، وبمغامرة جريئة تصعد إلى القطار الذي يقل الإسرائيليين في مشهد مليء بالتوتر والإثارة. وبعد سير القطار يكتشف أمرها الضابط «شيمون» فتقفز مع حفيدها من القطار الذي ينفجر بعد لحظات من قفزها فتموت هي ويبقى حفيدها حياً.

 

المخدوعون

 

أما فيلم المخدوعون للمخرج المصري توفيق صالح الذي رحل في آب/ أغسطس 2013، فهو فيلم سوري من إنتاج المؤسسة العامة للسينما مأخوذ عن رواية «رجال تحت الشمس» لكنفاني، وهو من بطولة عبد الرحمن آل رشي ومحمد خير حلواني وبسام لطفي وثناء دبسي. وقد صنفه النقاد على أنه واحد من أهم مئة فيلم في تاريخ السينما العربية.

وسافر صالح من أجل تصوير الفيلم إلى سوريا، والغريب ان الفيلم بعد عرضه الأول في القاهرة سنة 1972، رُفض السماح باستمرار العرض، وما زال الرفض قائماً حتى بعد مرور أكثر من أربعين عاما على عرضه التجريبي ذاك، على الرغم من أن الفيلم عرض في أكثر من مهرجان وفاز بعدد من الجوائز، أولاها جائزة مهرجان كان للعام 1972، وجائزة مهرجان قرطاج للعام 1972، وجائزة مهرجان ستراستبورغ لأفلام حقوق الإنسان للعام 1973، وجائزة المركز الكاثوليكي الدولي في بلجيكيا للعام 1973، وجائزة لينين للسلام في مهرجان موسكو للعام 1973.

وتقوم رواية «رجال تحت الشمس» على حبكة سردية بسيطة يؤدي الأدوار الرئيسة فيها أربعة أشخاص هم مروان وأبو قيس وأبو الخيزران وسعد. فقد حاول هؤلاء الأشخاص الذهاب إلى دولة الكويت إبان عهد الاستعمار من دون أن تتوافر لديهم تأشيرات، فاتخذوا من صهريج لنقل المياه يقوده السائق «أبو الخيزران» وسيلة نقل تمكنهم من الدخول للكويت حتى لا تعيدهم سلطات أمن الحدود. وقد أسهمت ظروف لم يتوقعها السائق ولا الشبان الثلاثة في تأخير الصهريج عند نقطة التفتيش، ولأن درجة الحرارة في داخل الصهريج المغلق مرتفعة، وبازدياد ارتفاعها نتيجة الانتظار قبل أن يستأنف السائق قيادة الصهريج، توفي الرجال الثلاثة ولم يقم أي منهم بقرع جدران الصهريج طلباً لإنقاذهم من الموت المحقق في داخل الخزان. وهذا هو السؤال الذي انتهت به الرواية عندما تساءل أبو الخيزران، بعد أن رمى بجثثهم واستولى على ساعاتهم وعلى ما في جيوبهم من أوراق نقدية قليلة وعلى ما بحوزتهم من ممتلكات، قائلا: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟

هذه الحكاية هي المادة التي حولها توفيق صالح الى سيناريو جرى تصويره في مواقع قريبة من فضاء الحدث، وعلى الرغم من أن الفيلم مر على إنجازه أربعون عاما فما زالت الجهات ذات العلاقة ترفض عرضه في مصر، ولم يكتب عن هذا الفيلم ولو مقالة واحدة تقريظا أو نقدا، لتقتصر مشاهدته على تجمعات خاصة وعلى سينمائيين مهتمين وعلى أفراد من هذا القبيل أو ذاك. أما شعبيا فإن الفيلم لم يعط فرصته للعرض حتى هذه اللحظة. والأمر لا يقتصر على هذا فقط، فقد حصل هذا الفيلم على الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج، ولم يذكر في مصر مثلا أن الفيلم نال مثل هذه الجائزة أو تلك.

قصة هذا الفيلم وحكايته مع الرقابة وتجاذب الممانعين بين العرض والحجب كانت مدار حوار مع المخرج توفيق صالح أجراه الناقد محمد شاهين، رئيس تحرير «المجلة الثقافية» التي تصدر عن الجامعة الأردنية وقد توفي المخرج قبل أن يرى حواره منشورا. وفي هذا الحوار يقول صالح: كانت الرواية في السوق فاشتريتها وقرأتها وأعجبتني جداً. كان ذلك في الستينيات بعيد ظهورها بثلاثة أو أربعة أشهر. أعجبت بها جداً، ولم أكن أعرف غسان كنفاني حينئذ. كنت أعرف أخوه مروان الذي انضم الى فريق النادي الأهلي لكرة القدم، ولكني كنت أعرف أحمد بهاء الدين. فقلت لبهاء إني قرأت القصة، وأريد أن أحولها إلى فيلم، فأجاب إن غسان سيحْضر الى القاهرة بعد أسبوع، وعندما يأتي سأعرفك إليه. بعد أيام دعاني وزوجتي إلى العشاء في منزله، وكان غسان حاضراً، فانفردت به جانبًا، وأخبرته أني أريد أن أحول قصة «رجال في الشمس» إلى فيلم فوافق، وسألته بعض الأسئلة عن تفصيلات تتصل بموضوع الرواية، وأجابني عنها، وهذا ما كان.

سافرت في نهاية ستينيات القرن الماضي إلى سوريا لأني لم أجد عملاً في مصر، وهناك تعرفت إلى سعد الله ونوس الذي أخذني إلى قرية والده، وجلسنا هناك عدة أيام، وكتبنا فكرة الفيلم وسلمناها الى المؤسسة في سوريا، فكتب أحدهم تقريراً ولكن ليس عما كتبناه، وإنما عن وجود مخرج مصري في سوريا، وأننا (أنا وسعد الله) شتمنا النظام السوري، وفي اليوم التالي أقصي سعد الله ونوس من عمله، وكان مديرا للهيئة العامة للمسرح، وطالبوني بالنقود التي كنت قد قبضتها عند توقيع العقد، ولكني لم أكن أملكها فقد دفعتها أجرة للبيت الذي سكنته وأبنائي الذين اصطحبتهم معي. فقالوا لي: قدم رواية جديدة، فقدمت ما يقرب من 12 رواية من الأدب السوري رُفضت جميعها. وكانت تحت عيني «رجال في الشمس»، فقلت: أعمل هذه الرواية، وكانوا قد أحضروا شخصا لا يفهم في السينما، ومع ذلك كتب سيناريو الفيلم، فقالوا لي خذ هذا السيناريو... ها هو جاهز، فقرأته، وقلت: عيب، أنا لا أعمل هذا. فقالوا: اكتبه أنت، فكتبته بسرعة، وتم عمل الفيلم في ظروف غريبة. على الرغم من أن الظروف لا تشجع على إخراج أي فيلم، فقد تم إنجازه، وبعد ذلك منعوا عرضه على أساس أن مستواه الفني لا يرقى إلى مستوى الفيلم السوري بناء على تقارير المخرجين التابعين للمؤسسة.

وتابع: جرت العادة أن يجمع جل المخرجين في البلد، وموظفي المؤسسة كلهم، لمشاهدة الفيلم في عرضه الأول. وأنا رأيت تأثير الفيلم على الحاضرين في ذلك العرض، كان مذهلاً، ففرحت.. وعندما ترى رجلاً كبيرًا ومحترمًا يبكي في نهاية الفيلم من شدة التأثر، تحمد الله على الكثير الذي حققته. واعتقدت، بسبب ذلك، أن الفيلم سيعرض قريباً ولكن ذلك لم يتم، لا بل تم منعه من العرض.

أحدث الفيلم ضجة في مهرجان كان في سنة 1972، وفاز بالجائزة، ثم انتقل الفيلم إلى تونس وحصل على الجائزة الأولى، وبعد تونس وصل إلى ستراسبورغ ونال الجائزة الأولى في مهرجان أفلام حقوق الإنسان. وفي بلجيكا نال الجائزة الأولى، ولم يذكره أحد في مصر. ويقول توفيق صالح بالقول: ربما لأنه فيلم عن الفلسطينيين. أتذكر أن كثيرين سألوني: لماذا جعلتهم يدقون جدران الخزان؟ وفي الرواية لم يفعلوا ذلك، حتى ان أبو الخيزران كان يصرخ: لِمَ لم يدقوا الجدران؟! وتردد صدى صرخته تلك في الصحراء؟ أجبت بأنني أنا من قّرر هذا، لأن غسان كان «خجلاً» من أن الفلسطيني يترك بلاده بحثاً عن عمل.. تفسيره هذا كان صدمة لي، فلو كنت أعرف هذا المغزى، وأنه كان خجلاً، والتزمت هذا التفسير في الفيلم، لتغير كل شيء فيه، وأصبح «المخدوعون» كأيّ فيلم من الأفلام المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي.

 

ميرال

 

في العام 2010، التقط المخرج الأميركي اليهودي جونثان شنايبل، رواية رولا جبريل الكاتبة والصحافية الفلسطينية المقيمة في إيطاليا، والتي حولت حكايتها ومن حولها إلى ما يشبه الرواية، ليحولها إلى تحفة سينمائية، حملت اسم «ميرال». ولا يخلو الفيلم من إسقاطات ودلالات مثيرة، دفعت كتاباً في صحف إسرائيلية الى وصف الفيلم بالخطير حتى قياساً بأفلام كادت تسجن منفذيها كفيلم «جنين جنين» لمحمد بكري. ولعل ما أثار البعض في الفيلم هو أنه يبدأ بإشارات تعايش تنقلب سريعاً مع نكبة 1948، وما خلفته من مآس ومجازر، ومن بينها مجزرة دير ياسين، عبر حكاية المناضلة هند الحسيني التي حولت منزلها ومنزل جدها إلى مدرسة لأيتام المجزرة، وغيرهم من الأيتام، وكانت إحدى خريجاتها كاتبة النص التي فضلت اسم «ميرال» لتتحدث به عن نفسها، كما ينتهي الفيلم ذو الإنتاج الفرنسي الإسرائيلي الإيطالي الهندي المشترك، بإهداء من أسرته إلى كل من لا يزال يؤمن بأمل في تحقيق السلام. لكن الفيلم، يبدو بلا شك فيلما فلسطيني المضمون والنكهة في مجمله، فعلى الرغم من مخرجه الأميركي اليهودي، ومن بطلته الهندية الهوليوودية فريدا بونتو، التي جسدت «ميرال» أو رولا جبريل، والنجمة العالمية فينيسيا ردغريف، إلا ان السطوة كانت للفنانات الفلسطينيات، وعلى رأسهن هيام عباس، التي جسدت دور هند الحسيني باقتدار.

قدم الفيلم حكاية من حقبة فلسطينية امتدت منذ ما قبل النكبة وحتى اتفاق أوسلو عبر أربع حكايات متشابكة لأربع فلسطينيات، هن هند الحسيني، وكانت الخيط الدرامي الرابط بين الشخصيات، ونادية والدة ميرال، وصديقتها المناضلة فاطمة برناوي، وميرال نفسها. ويمكن اعتبار الفيلم بوحا حقيقيا وجريئا لرولا جبريل، فهي لم تتورع عن رواية حكاية والدتها التي تعرضت لاغتصاب متواصل لسنوات من زوج أمها، وعملت في مراقص اليهود، وحتى حين تزوجت والدها المفترض، بقيت مدمنة على الكحول، وتقيم علاقات خارج إطار الزواج. والمثير أن ميرال التي هي رولا جبريل نفسها، تكتشف، وتعترف باكتشافها، بأن والدها ليس هو والدها البيولوجي الحقيقي الذي لم يكشف عن هويته، وهل هو عربي أو يهودي أو غير ذلك، فوالدتها كانت تسهر حتى ساعات متأخرة من الليل خارج المنزل، وتعود في حالة من السكر الشديد، قبل أن تنتحر في البحر الذي تحبه. واللافت أن ميرال، أو رولا جبريل، عرفت أن والدها يدرك أنه ليس والدها، وأن عمتها تعرف من هو والدها البيولوجي، لكنها تصر على عدم كشفه، وأنها لا تأبه لكينونة والدها الآخر، الأمر الذي يرمز الى تشبثها بفلسطينيتها، التي كادت من أجلها تقضي في السجن سنوات، أو برصاصة من رصاصات الاحتلال.

كانت المنحة الدراسية إلى إيطاليا، والتي أمنتها هند الحسيني لميرال، طوق نجـــاة لها فور وفاة والدها، ومقتل حبيبها الذي اتهم بالعمالة والخيانة زوراً لمعارضته توجه رفاق له من ناشطي الانتفاضة الأولى، ولموقفه الإيجابي نسبياً من اتفاقية أوسلو، وهو ما يجعلنا نتوقف عند رمزية الخلاص بالرحيل.

 

* صحافية فلسطينية مقيمة في رام الله

 

السفير