"مارد من السنابل" مارد من الثورة والشعر*

بقلم: سميح القاسم

"لهذا المارد اسم هو معين بسيسو، معين توفيق بسيسو "ابو توفيق"، كما أحب وأحببنا ان نخطابه، وأبو توفيق معين بسيسو شاعر كبير. استمد كبره وكبرياءه من منجمين عميقين وثريين، منجم الالتزام الثوري ومنجم الابداع الشعري. وانجازات معين الشعرية والمسرحية ونثرياته اليومية الحياتية اللامعة، كانت وينبغي ان تظل ركنا راسخا ومضيئاً من أركان الثفافة العربية الفلسطينية بابعادها الوطنية والقومية والأممية. وإقدام الأخت والرفيقة الرائعة صهباء والابن البار الأصيل توفيق، على إعادة طباعة الأعمال الكاملة لمعين بسيسو، لا يجوز وضعه في خانة "إحياء الذكرى"، لأن ذكرى معين لم تمت ولن تموت، حتى يعمل أحد على "إحيائها. هذا المشروع الكبير والجميل والمدعوم من رفاق ابي توفيق، وأنا واحد منهم، هو الرد المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب، على دعاة النكوص عن ثقافة المقاومة والحرية والسلام، والانحناء للموجة الذليلة العكرة، التي تروج لثقافة الخنوع والاستسلام بذرائع هابطة وركيكة، فلا الوطن تحرر ولا الشعب استقل ولا الدولة ذات السيادة تحققت، وما زالت القدس عاصمة روحنا وتاريخنا وحلمنا، عرضة يوميا لمشروع التهويد الهمجي.

منذ فتوتي الشعرية عرفت اسماء ابي سلمى وعبد الرحيم محمود وابراهيم طوقان وفدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي ومطلق عبد الخالق وآخرين وأخريات من شعرائنا الأفذاذ وشاعراتنا المبدعات، وكان واضحا لي ولزملائي ورفاقي راشد حسين وتوفيق زياد ومحمود درويش وسالم جبران وشكيب جهشان وجمال قعور، وسائر الاشقاء والشقيقات الذين لا يقلل من شأنهم هنا عدم تسجيل اسمائهم، فما انا بصدد دراسة اكاديمية، وتقتصر مهمتي هنا على تسجيل ملاحظة تقول انه كان واضحا لنا اننا لم "نطلع من حائط"، بل نحن نواصل مسيرة شعرية باذخة وراسخة، وعلى هذه القاعدة الصلبة وضعت كتابي المنشور بالتعاون مع اليونسكو في حينة، الكتاب التوثيقي "مطالع من انثولوجيا الشعر الفلسطيني في ألف عام"، وفي ذلك الكتاب حضور بارز لمعين بسيسو، بما يستحق طبعاً، وتضمن قصيدته الشهيرة بعنوان "القصيدة" والتي نشرتها له في كتيب صدر عن منشورات "عربسك" في حيفا تحت عنوان اخترته لها بموافقة معين هو "ابدأت تحصي أضلعك". ومع لوحات خاصة مستوحاة من القصيدة أنجزتها الفنانة سعاد نصر. وحين علم معين بصدور قصيدته في حيفا فقد فرح كثيراً وانطلق مداعبا القائد الأخ ياسر عرفات ورفاقه: "أترون؟ لقد عدت الى فلسطين قبلكم. أنا في حيفا الآن مع سميح القاسم. أترون؟".

وللأمانة التاريخية، فقد كابدت علاقتي بمعين بسيسو مرحلة قصيرة من الجفاء والخصام في العام 1970 بقدر ما أذكر. آنذاك جاءتني الشاعرة الرائعة فدوى طوقان بقصاصات من الصحافة اللبنانية تحمل هجوماً عليها وعلي من معين بسيسو ومحمود درويش. بكت فدوى المعروفة برقتها ودماثة أخلاقها، فهدأت من روعها وكتبت ردا عنيفا نشرته آنذاك جريدة "الفجر" المقدسية اليسارية وأعادت نشره الصحافة اللبنانية وانقسم المثقفون الفلسطينيون واللبنانيون والعرب الى "حزبين"، وعلم القائد الأخ ياسر عرفات "بالمعركة الميليشيوية" فاستشاط غضبا وكلف الأخ شفيق الحوت (بشهادة الأخ يحيى يخلف) بوضع حد فوري لهذا "الاشتباك" غير المبرر، فنشر معين ومحمود اعتذارا تصالحيا في وسائل الاعلام الفلسطينية وارسلت الينا نسخة منه نشرت عندنا، وعبرت السحابة القاتمة المفتعلة وعادت المياه الى مجاريها الطبيعية، وبما يليق بالأشقاء والرفاق على ساحة واحدة وفي خندق مشترك.

وفي العام 1978 تلقيت دعوة من الدكتور هشام شرابي للمشاركة في مهرجان يقيمه الخريجون الجامعيون العرب الأميركيون في مدينة منيابوليس في الولايات المتحدة. ولبيت الدعوة، والتقيت هناك بمعين بسيسو ومحمود درويش، واتفقنا على تقديم أمسية شعرية مشتركة في قاعة تتسع لقرابة الف شخص، وكانت أمسية من أجمل الأمسيات كانت مفعمة بالمحبة والدفء والعنفوان والشعر، وحاصرنا الجمهور بطلب الصور والتواقيع، ولاحظنا محمود وانا، ان "معين" كان متجمها بعض الشيء. ولاحظ ذلك ايضا صديقنا الدكتور هشام شرابي فسال "معين" عن سر تجهمه فرد معين محتجاً: هذه القاعة صغيرة علينا، فكيف تضعون ثلاثة حيتان في بانيو؟
ضحك هشام شرابي مربتا على ظهر معين: أنت على حق يا ابا توفيق، هذه القاعة صغيرة عليكم ولكننا لم نجد هنا قاعة أكبر منها. في المرة القادمة سنحجز لكم اكبر قاعة في الولايات المتحدة. المهم ان تعدونا بزيارة أخرى وأمسية اخرى".

وابتسم مارد السنابل والالتزام والشعر قائلاً: نحن جاهزون دائما لتلبية نداء شعبنا في كل زمان ومكان نحن منكم ولكم ومعكم الى آخر العمر.
وهذا ما كان فعلاً. ظل معين بسيسو منا ولنا ومعنا الى آخر ايامه وإلى آخر خفقة، من قلبه الكبير والجميل، في فندق لندني غائم بعيد.
ويا صهباء وتوفيق وكل الرفاق والأصدقاء الأوفياء، نحن لا نحيي ذكرى معين باعادة طباعة اعماله الابداعية الرائعة، فذكرى معين لا تموت "وهو يدري كم نحبه"، لكننا نجدد العهد على مواصلة المسيرة على درب الآلام وطريق الحرية والسلام والمقاومة والإبداع. هذا هو طريقنا الذي اخترناه وشققناه معا وابداً على هذا الطريق.

(الرامة ـ كانون الاول 2013)

* مقدمة الأعمال الكاملة للشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو