رواية "راكمان وعبدالرحمن" لنبيل أبو حمد: حكاية الإنسان الفلسطيني

 
بقلم: يقظان التقي

نبيل أبو حمد في رواية جديدة "راكمان وعبدالرحمن" يتناول الإنسان الفلسطيني وأشياء أخرى بعد روايتيه "العطيلي" و"بيت من الشرق" وهو يستعيد مناخات من الزمن الفلسطيني والعربي في زمن الاحتلال الإسرائيلي، عندما بدأ صراع الأهالي الفلسطينيين مع المستعمرات الإسرائيلية.
عبدالرحمن بطل الرواية الأول ابن شهيد فلسطيني من يافا الجميلة مع مروحة من الأفكار التي راوحت بين أفكار سادت المنطقة من يافا، الى بيروت ودمشق وعمان وامتداداً الى عواصم أوروبية.
عبدالرحمن شغلته أحداث الاحتلال الإسرائيلي وأعمال العنف التي مارسها الأخير بغطاء من الانتداب البريطاني ومواجهات الأهالي لأعمال قمع الحرية، ثم ضاع عبدالرحمن ما بين الثورة والحرية وبين الجنس والحب وإرادة الخروج على الأوضاع السائدة ومحاولة التعبير عن نزق خارج عن العادات والتقاليد.
ثم تقوده النكبة مع صديقه ورفيق طفولته ومراهقته طارق الى الهجرة الى لبنان، ثم الى سوريا، والقاهرة ولندن ليجد نفسه في ظروف مغايرة حد قطع الجذور مع عائلته وأهله ورموزها في الفصل الأول، فصل شهادة والده والأرض والعلاقة مع المكان ورمزيته الى الخروج الى هواء آخر، لا بل مستنقع من المغامرات العاطفية وحياة الكازينوات ومزيج من الفساد السياسي والثلاثية الثورية التي لا علاقة لها بالسياق الروائي العام.
راكمان: يهودي/ بولندي، ابن طبيب أسنان.. الغارق في كشكول من العلاقات الخطرة ومواخير الليل الأوروبية، وسوق العقارات والجنس والسعي الى مزيد من المال والأعمال العقارية في حقل من "البزنس" المربح جداً لراكمان ولاحقاً الى عبدالرحمن الذي اكتشف أن راكمان يدعم إسرائيل مادياً ومعنوياً.
وجه سليمى جارة عبدالرحمن وجهها في كل جوانب القصة أو الرواية، إمرأة تركت يافا لتظهر في نهاية الرواية شخصية أكاديمية ومتجاوزة سليمى السابقة وجوهر قصة حب بطريقة متحولة غريبة ومنفصمة في الوقائع والتفاصيل.
رواية لا تندرج في نقاط درامية وتتبع خطاً تقليدياً سائداً أقرب الى القصة منها الى الرواية في تدرجها وتفاصيلها وتحولات عناصرها البنيوية، وفي كثير من السهولة السردية غير المترابطة تماماً في سردها ولا في بلورتها فضاءات من صراع الهوية.
مع ذلك في الرواية (270 صفحة) عودة الى مناخات الأربعينات والخمسينات والستينات أيام الحاج أمين الحسيني والمجلس الإسلامي الأعلى في القدس وغيرهم، وصور جميلة من أحياء يافا ومهنها وشوارعها، وبيوتها الحجرية ونقطة عبور الحجاج من البحر الى القدس ومقهى أبو عفيف وانطلاق عمليات عزالدين القسام وما قاله عزالدين قسام للحاج أمين: "يا حاج أمين أنت تبني الجوامع أكثر من شراء الأسلحة".
بعد توصيف كلاسيكي بإيقاع بطيء نسيجاً يتماسك أكثر في وصف الانغماس في ليالي القمار والعواطف والكازينوات "الفيل القرمزي"، والحانات والمقاهي بالانتقال الى حكاية "راكان"، ثم العودة الى عبدالرحمن.
قد تتلمس الى حد ما بروز التمرد الفردي عند المرأة في حيفا من باب التمرد على الحرب نفسها، وعلى الاحتلال وجوهره القائم على إرهاب الحياة العادية والحب في جوهره وتأويله نقيض الحرب، ونقيض الهزائم والنكبات والمجتمعات السجينة.
وقد تتلمس بعيداً الخيط الذي يجمع ما بين النكبة في فلسطين ومسلسل الانقلابات العربية وأشكال الفساد السلطوي واختراق المؤسسات السياسية بذلك المزيج من الحب والجنس والقمار والسياسة والديبلوماسية والنضال والمخابرات العسكرية والانضواء في منظومات حزبية بائسة. ثم ذلك الخيط غير الواضح تماماً في أشكال التعبير عن الفرد وسط اجتماع عام متهالك بفعل الخيبات وعنف الاحتلال لينتهي الفصل الثالث بمنظومة فكرية خطابية ونظرية من نمط تعبيراتها السياسية المباشرة بما يشبه تقرير تحليلي وصفي كحال الأوضاع في سوريا ولبنان ومصر والأردن.
رواية نبيل أبو حمد لا تتغير عن مزاج القصة التي كتبها ويراكم فيها تواريخ وذاكرات مدينة يافا وشخصيات قليلة في الرواية، لم تكتمل مواردها ومصائرها التفصيلية ولا حدود الالتزام لرواية سياسية.
الرواية منشورات "الدار العربية للعلوم والنشر"، ويتبدى منها إشارات عن زمن الاربعينات والخمسينيات، ويتبدى في الخلفية نزعة تمرد على السياسات التي خلطت ما بين القضية الأساسية الأرض في مقاومة الاحتلال وسوق الكازينوات والعقارات والجنس والعلاقات العامة والانقلابات.
نبيل أبو حمد منخرط في مجال الفن والرسم الكاريكاتوري والقصص والشعر وله علاقة بحواس المكان والزمن العربي بكل محفوراته ومكنوناته واعتمالاته وتحولاته ولامع جداً في الرسم الكاريكاتوري. وهو يغامرهنا في هذا الإصدار بلغة روائية سلسلة لغوياً ولكن تجري بإيقاعات بطيئة ومن دون تعمق في حالات الشخصيات الرئيسية أو الثابتة ولا في المواقع والنقاط الدرامية وتجري في سياقات تصويرية وصفية جيدة ولكن بالقليل من الاحتمالات المفتوحة والتقدم الديني في حركية روائية يحتاج الى تماسك الإيقاعات وتعميق الشخصيات والخلفيات أكثر وأكثر. لكنه التجريب الذي يواظب فيه أبو حمد على الشغل في الرسم والكتابة في انشغالات فنية وأدبية يجتهد فيها في تصويت عال على الحضور والإيقاع البنّاء.

 

هنا مقتطفات بتصرف من الفصلين الأول والأخير.
 

[ يافا
(...) شردت بتفكيري الى الوعي الأول لي.. الى الحكايات التي كان والدي يرويها، وقصة لقائه مع والدتي وحبه لها وخطبه لها وعرسهما الذي استمر أسبوعاً من الفرح والرقص والغناء والدبكة والمأكولات اللذيذة والمشروبات والسمك على أشكاله وأنواعه.
كان والدي يقصد بلدة الرملة كل عام ليتموّن من معاصرها بالزيت، وكيف شاهدها بجمالها الباهر في معصرة والدها، فأحبها لأنها أعانته على تعبئة تنكات الزيت، ولأن "خالها" الأسود على الحاجب الأيسر حط في سويداء قلبه، لم يعد ينام بعد لقائه الأول لها. فروى لأمه حبه الوليد تجاه هذه الفتاة الهيفاء، والتي صدف أن اسمها "هيفاء"، وأنه لم يستطع أن ينساها، ويتمنى الذهاب يومياً الى الرملة ليكحل ناظره بطلتها.. فأخبرت والدته والده الذي ذهب مع أعيان يافا الى الرملة ليخطبها لابنه فيهديها خاتم "الألماظ" ومحبس الذهب، و"الدبابة" الذهبية للمعصم كأنه يكبلها للعمر كله.
كان يروي لي باعتزاز وعلى مسمعها ربما ليضحكها أو ليشعرها بحبه العميق والمستمر، وكيف كان مع نهاية الأسبوع يذهب الى السوق ليبتاع الحلويات والسكاكر، كما كان يوصي على صندوق البرتقال "الشموطي" يأتيه من دكان الحاج ابراهيم البواب من بيارة "زنطح" أو من بيارة "أبو خضرة" ثم يذهب بعد أن يقص شعره في صالون الحلاقة خلف شارع اسكندر عوض الى حمام السوق في محلة العطارين.. يوضب كل شيء ويستقل الحنطور ذاهباً الى الرملة لزيارة أهل خطيبته ورؤية هيفاء الحبيبة.
حين كتب كتابه عليها قدم لها مقدماً عشرين عثملية ذهب والكثير من الحلي.
هذه الفتاة الجميلة هي والدتي، و"خالها" الداكن الأسود ما زال يكحل حاجبها الأيسر وهي الآن لا تقوى على دخول غرفة النوم التي ضمتها ثمانية عشر عاماً مع زوجها: والدي.
لا تريد أن تدخلها لأنها أصبحت موحشة بدونه، ولا يمكن أن ترتاح لفراش درج أن يمتص نبض جسديهما ولمخدة طويلة تلقت الكثير من تنهداتهما وأنفاسهما الحميمة.
والدي الذي علّمني كل تفاصيل الحياة وكان صديقاً لي أكثر منه والداً، كنتُ أرافقه في ذهابه وإيابه، حين يقصد السوق، حين يتمشى في الأمسيات على شاطئ يافا، حين يدرج في منطقة العجمي وأكثر الأحيان حين ينساب مع الماء في قارب صيده.
حين نستيقظ بعد منتصف الليل والعتمة تلف يافا نقصد شاطئ "بركة قمر" حيث يتوجّه الصيادون لمزاولة مهنتهم ونركب قاربنا الأزرق بمجاذيفه الخضراء لنشق بعيداً في مدى البحر ومدى الأحاسيس والمغامرة.. مغامرة الرزق المأمول والكنز المحلوم لما قد يرميه اليم للصياد المفتون بالأسرار وغيب البحر وسكينة الليل المديد في خفق الموج ونسمات العتمة.
بحر يافا وميناؤها الذي كان بحارته يسمونه "جورة الكفر" لكثرة ضجيجه وحركته التجارية ومدى اللغط والمشاحنة وعراك البحارة اليومي.. أو ربما لكثرة ما اختطف أعماراً إما بابتلاعها موتاً أو ابتلاعها عمراً يفتّت الأجساد معاناة وقسوة.
في هذا الميناء المشطور ما بين "البوغاز" و"الدبلاجة" وفي البحر العريض كان والدي يرمي ذاته مع شباكه كل ليلة وكأنه السندباد يريد من البحر أن يعطيه اللؤلؤ مع الأسماك.
والدي ابن البحر الذي ترعرع أبّاً عن جد في صناعة القوارب من أجيال وأجيال أتقنوا الحرفة والقدرة على صناعة المواعين والجروم والمراكب حيث تربى بين ألياف الحبال المغموسة بالقطران وأخشاب القلفطة المشبعة بمياه أحواض المتوسط ملحاً ورطوبة قبل أن تنصب فلايك ومبطنات وحسكات.. والدي الذي احترف رمي الشباك في خضم اليم مع قنديله المتلألئ، أو في صيد "اللوكسات" مع بقية الصيادين عندما كان يشمر عن ساعديه ليجرف معهم "جاروفة" "اللقس" و"الفريدن" و"المسقار" و"البوري" و"الغمبار" و"السلطان ابراهيم".. حتى لا ننسى "البزري" و"السردين" إذا لم يفتنا "الجربيدن" و"الداقور" و"الصفرناية"، وكم تكون سعادته طاغية حين يأتي بسلته ويربض في قعرها "سلطعان" أو "كركدن".
حين يبيع غلته لتؤخذ الى "حسبة السمك" ويبقي ما استحلى لنتلذذ بقضمه معاً عند المساء يحرص أن يدلف الى "قهوة الإسكندراني" مع طلات الصباح ليحتسي الشاي، وينفخ أريج التنباك المعسل مع هدهدات الموج.
ما زلت أتمطى في فراشي متكاسلاً ومتذكراً الأيام المشرقة الماضية بصحبة والدي متحسراً لغيابه ومتحسراً لما كان يخبرني عن تاريخ يافا.. يافا التي قصدها نابليون لينام في ديرها.. يافا ببوابتها الحجرية التي بناها رمسيس الثاني على السور الجنوبي.. كنا نصعد سوياً الى تلال يافا لننظر من فوق الحمّام القديم الى الميناء بسلسلته الصخرية وحيث تبدو صخرة "الاندروميدا" ويحكي لي أسطورتها حيث رُبطت فتاة إغريقية بجنازير حديد الى هذه الصخرة لتقدم لوحش البحر، فأتى برسيوس وتعارك معه وقتله وخلّص الفتاة ليتزوجها.
يافا التي أصل اسمها "يافو"، أي الجميلة، والتي مرّ عليها وعبرها الظاهر بيبرس والمماليك وبنى فيها العثمانيون برج آغا محمود عمر، يافا المذكورة في التوراة بأنها مدينة سمعان الدباغ، وقصدها القديس بطرس ليعيد الحياة الى "طابيثا" فعمّر لذلك كنيسة من أهم كنائس فلسطين في الموقع نفسه، اسمها كنيسة القديس بطرس، وهي تعادل كنيسة المهد في القدس من حيث الأهمية.
يافا طريق الحجاج من البحر الى القدس كنت أجلس فيها مع والدي في "قهوة أبو وديع" لنلعب الدومينو أو طاولة النرد وليحدثني عن جارنا أبو جابر الذي يعمل في البريد والذي ماتت زوجته من دون معرفة مرضها فقط كانت تذوي وتضمر حتى استحالت ركام عظام فتمنت الموت حتى تحقق لها لترتاح.
يحدثني عن صاحب مقهى أبو عفيف الذي كان جارنا الآخر والذي كان يلقبه بـ"الشلفطان" لأنه ماهر يشفط الأموال من الزبائن، فهو يبقي مقهاه مفتوحاً طيلة الأربع وعشرين ساعة ويقدم ما يريده الزبائن من مأكولات وخدمات عامة لما له من علاقات مع أصحاب الشأن الحكومي، حتى أنه كان يقوم مقام المصرف، فيقرض الأموال مقابل الرهنيات أو يديّن بـ"الفايظ" فيثرى فوق ثرائه، فغالباً ما تبقى الرهونات من دون قدرة أصحابها على الإيفاء بثمنها لفقرهم.
[الحرب والهجرة
(....) بدأت الحرب وهروب العرب الذي يقدر بثلاثين الف اثر مذبحة "دير ياسين".
تولى القائد غلوب باشا، قائد الجيش الأردني، فيلقين من الجيش لحماية القدس وطريق اللطرون.
هجم لواءان من الهاغانا من اليمين والشمال بقيادة طيغال آلون" واستوليا على اللد والرملة، فسحب غلوب باشا سرية الدفاع الأردنية من اللد خوفاً من وقوعها بين فكي كماشة اللواءين الاسرائيليين متوخياً أن يقوم في اليوم التالي بهجوم معاكس.
في اليوم التالي حصلت المعركة مع القوات الاسرائيلية لكن القوات الاردنية لم تستطع استرداد اللد التي تشكل مركز التقاء قطارات السكك الحديد لكل فلسطين، كما ان فيها المطار الوحيد للبلاد. آثر غلوب باشا عدم اشراك الكتيبة المتمركزة في طريق اللطرون لحماية القدس لشعوره بأنه سيخسر المعركة، فقامت قيامة سكان اللد والرملة لشعورهم بالخزي من تصرف غلوب باشا واتهموه بالخيانة لدرجة ان سرية الدفاع الأردنية حين وصلت الى رام الله استقبلت بالحجارة، كما ان غلوب باشا استدعي للمساءلة من قبل الادارة الأردنية.
تابعت هذه المجريات كوني كنت مكلفا لتغطية تفاصيل المعارك بشكل يومي وتفصيلي في الجريدة، فسجلت هذه الهزيمة كنقطة سوداء على القيادة الاردنية.
سقطت الرملة في اليوم الثاني لسقوط اللد، وتمركزت القوات الاسرائيلية في المدينتين مشكلة قاعدة صلبة في مخططها التدريجي للاستيلاء على القدس.
شارك موشيه دايان في معركة اللد حين قصر وصول اللواء الشمالي في الوصول بالوقت المناسب، فهاجم دايان بفرقة كوماندوز المدينة، وبشكل شرس آمراً باطلاق النار عشوائياً موقعاً قتلى وجرحى من المدنيين بالمئات، مما جعل الناس تفر تاركة البلدة بالآلاف، وكثير منهم قصد يافا كملجأ نزوح.
كان لسقوط اللد والرملة الوقع المؤلم في الوسط اليافاوي، فتداعت القيادات والشخصيات الى اجتماعات متواصلة للبحث عن كيفية حماية هذه المدينة الهامة ذات الميناء الرئيس.
لم أعد ارى طارق في هذه المرحلة لانشغاله مع الثوار الذين تشكلت لهم قيادة جديدة اثر اندلاع الحرب فانغمس فيها نهائياً مع بقية المقاتلين.
كنا نلتئم ليلياً، مجموعة الجيران لنتدارس ظروفنا ونهدس بهمومنا الشخصية على ضوء المصابيح وضمن النوافذ ذات الزجاج الأزرق خاصة وان نجاحات المعارك العربية كانت شحيحة.
دابت ام طارق وزوجها على المشاركة في هذه الجلسات، تتسقط مني أخبار المعارك أو اياً من اخبار طارق ان تناهى لي شيء منها... كثرت الاشاعات كما كثر من يضخم بانتصارات مزيفة لجيش الانقاذ. كما ان كثيراً من البدو بقواهم المسلحة أخذت تغير على البيوت الفارغة لنهبها.
كنا نلتف حول المذياع نصغي لاذاعات الدول العربية الواعدة بضرب الصهاينة، وخاصة اذاعة القاهرة المهددة بغزو الجيش المصري لتطهير فلسطين من براثن السقط الأوروبي القذر وحثالة المهاجرين اليهود.
ابو جابر ووالدتي لطالما رددا بأنهما لن يغادرا يافا ولو على حساب حياتهما.
كان الجميع ينتظرني مساء حين اعود من الجريدة ليتلمس مني بعض الأخبار المفرحة عن سير المعارك وعن قرب الغزو العربي وذلك لتعزيز معنوياته واعطاء الأمل بأن يافا لن تسقط.
على الرغم من أجواء الجريدة المتشائمة المستندة الى الوقائع والأخبار الواردة عبر البرقيات والتحاليل العلمية المتشائمة لبعض الزملاء وأخبار المراسلين، كنت اصر على أننا لن ننهزم وأن الجيوش العربية آتية بقواها وتعزيزاتها وابشرهم بنجاحات الجيش العربي على الجبهة المصرية.. كما ابشرهم بمساهمة المقاتلين اليوغسلاف الى جانب العرب.
لكن ما يستند الى المعطيات والأرقام يفيد بغير هذا، فالجامعة العربية أعطت الحاج امين الحسيني عشرة آلاف بندقية وثلاثة آلاف مقاتل وضعتهم بامرته، كما ان مجموع القوات العربية لا يتجاوز الواحد والعشرين الف مقاتل، فيما بالمقابل القوات الاسرائيلية النظامية تقدر بخمسة وستين الف مقاتل، ناهيك عن القوات اليهودية غير النظامية وتقاربها بالعدد.
كما ان بن غوريون كان ارسل غولدا مائير في حملة دعائية الى الولايات المتحدة، حيث استطاعت جمع خمسة ملايين دولار، فيما العرب أجمعين تكرموا على الحاج املين بمليون جنيه استرليني فقط.
الدراسة الهيكلية للجيوش العربية تشير الى التقليدية والتراتبية وفقدان المبادرة والحركة السريعة الذاتية، مما يفقدها حسن التصرف في المعارك.
اكتشفت الجامعة العربية بكل دولها بأنها لا تملك خريطة طرق فلسطين، وحتى لم تتوفر للقيادة الفلسطينية للمجاهدين، لذلك استعانت القيادات العربية بالسيد جورج ديب، ابن وكيل سيارات "بويك" في القدس، حيث عهد لأحد المسؤولين عن الدفاع المحلي للاستيلاء على خمسين خريطة من ادارة الاراضي في القدس حتى تستند اليها القوات المصرية لمعرفة الطريق من الجنوب الى تل أبيب.
اخذت تتنازعني الافكار ما بين التفاؤل والتشاؤم، لا سيما وأن أبا جابر ميال للتشاؤم لتجربته المريرة مع التصرفات العربية، فكنا نقضي الليالي نضرب اخماساً بأسداس ما بين العزيمة والوقائع ونحسب الحسابات خاصة بعد سقوط اللد والرملة، وهل تصمد يافا؟ أم تسقط بايدي الصهاينة؟ كثيراً ما كنا ننام على امل ان تبقى يافا شوكة في أعين الصهاينة.
انخرط طارق في الحرب بكل عزيمته (وفق ما اخبرني لاحقاً)، واكتسب الخبرة القتالية لتجربته التي استمرت لعشر سنوات مع المجاهدين. كان قد بدأ مع فتوة جمال الحسيني ثم مع مناضلي الهيئة العربية العليا ليلتحق اخيرا بآمر حامية مدينة يافا عادل نجم الدين، الذي لطالما اصيب بخيبات كبيرة وكثيرة من تهاون اللجنة العسكرية العليا الذي كان من ركائزها طه باشا الهاشمي حيث يمثلها في مدينة دمشق.
اشتاط عادل نجم الدين غيظاً مع مقاتليه ومنهم طارق، عندما بثت اذاعة جيش الانقاذ ان مدافع قائدها فوزي القاوقجي قد دكت مستعمرة "نيتر" وجعلتها اطلالا، كما اشعلت الحرائق في تل ابيب، وهو بث كاذب وعار عن الصحة تماماً، حيث تبين لكل قيادات يافا افتراء هذه الاذاعة لأنهم لم يلمسوا اي هجوم ولم يروا خراباً ولم يسمعوا اي صوت لأي مدافع لان مستعمرة "نيتر" ترى بالعين وتسمع اصوات اية تفجيرات تصيبها بالأذن المجردة.. وكذلك لتل ابيب، مما حدا بعادل نجم الدين ان ارسل برقية تكذيب الى اللجنة العسكرية في القيادة العربية حول افتراء وادعاء ما يزعمه فوزي القاوقجي في اذاعته من ان جيشه، جيش الانقاذ، قد قصف تل ابيب، وكل ما تقوم به هذه الاذاعة ما هو الا من قبيل اضفاء البطولة الوهمية لدى المستمعين العرب لزعامة فوزي القاوقجي.
الذي حصل ان الصهاينة استغلوا هذا الاعلام المضلل لصالحهم، فقاموا فعلا بقصف يافا بصواريخهم من مستعمرة "نيتر" بالذات.
كان رد فوزي القاوقجي قاسيا على نجم الدين من خلال اللجنة العسكرية، حيث طلب اليها اصدار امر اعفاء له من مسؤوليته كآمر لحماية يافا واسنادها الى ميشيل العيسي نكاية وتفريجا لحقده على نجم الدين، ومما زاد في ايلامها موافقة اللجنة العسكرية لطلب القاوقجي.
لجأ عادل نجم الدين الى موقف سلبي، وبدأ بتحريض جماعته، ومن بينهم طارق، للانسحاب من القتال وترك مواقعهم فارغة ومسؤولياتهم في مهب الريح، حتى ان بعضهم سعى للتخريب ونهب الاسلحة.. تحت شعار فليأت القاوقجي ويثبت مهارته وشجاعته الحقيقية في القتال وحماية يافا.
التف حول عادل نجم الدين مجموعة كبيرة من المقاتلين، حيث لم تسعف الوساطات معه فآثر ترك يافا مع مقاتليه وعائلاتهم ومن بينهم طارق، حيث أخذ والدته وزوج والدته معه وغادر الجميع عن طريق البحر الى لبنان انتظاراً لدخول الجيوش العربية فلسطين وتحريرها وعندها ستظهر حقيقة بطولات القاوقجي، ويمكن التصدي له هو وجيشه الذي لقب بالجيش الهارب.
إن عملية الانتقام والتحدي وتبادل الأحقاد سرّعت كثيراً في تهافت أسس المقاومة في يافا وصمودها.
انعكس جو التخاذل السائد في المدينة وفي داخل مكاتب الجريدة، ففكر مسؤولوها بالانتقال الى غزة لتكون تحت حماية القيادة المصرية التي ما زالت تبدو صلبة ووراءها دولة بمؤسسات وجيش يظهر متماسكاً أكثر من أي دولة عربية، فأخذ في الاعتبار هذا التفكير ووضع في خانة انتظار التنفيذ.
أخذت يافا تتفكك يوماً بعد يوم خصوصاً مع تضاءؤل معنويات أهلها، وخصوصاً بعد سقوط حيفا، طبعاً إثر سقوط اللد والرملة سابقاً. كما أن القيادات الوطنية أصيبت بالإعياء والإحباط لفقدان الدعم العربي المزعوم وعدم التجاوب بإرسال أسلحة ثقيلة فاعلة لما تبقى من المقاتلين المحسوبين على ميشيل العيسى وعددهم لا يتجاوز المائتي نفر.
عمّت الفوضى وحل الذعر وتوقع الهزيمة بين المدنيين مما دفعهم للمغادرة أفواجاً بعد أفواج، كما أن آفة حلّت في المدينة على إثر نقص الدفاعات فكثر اللصوص الذين عاثوا في المرفأ تخريباً وسرقة، كما نهبوا البيوت الفارغة من أهلها.
أرسل ميشيل العيسى الكثير من البرقليات الى اللجنة العسكرية وفوزي القاوقجي يشرح فيها حال التردي والأخطار المحيقة بالمدينة، ولكن لم يكن هناك أي مجيب.
ساعد بعض من الضباط والعساكر الإنكليز الذين تحوّلوا الى كره الصهاينة لجرائمهم المتكررة تجاههم في الدفاع عن يافا وردّ هجمات الهاغانا الى أن جاء يوم طلب حاكم اللواء الإنكليزي المستر فولر، من وجهاء يافا المتبقين وبعض القيادات الفردية الاجتماع به، حيث أخبرهم أسفه لما وصلت إليه يافا من التشظي والفوضى، شاداً من معنوياتهم ومسؤولياتهم لإنقاذ هذه المدينة التاريخية والميناء العربي الوحيد المتبقي لهم، لافتاً بأن اليهود يضمرون الخراب.. وذكر بأنه سيظل يحاول الدفاع عن المدينة حتى انسحاب قوى الانتداب، لكن بعد هذا لا يكفل المصير.
كان وما زال في يافا بحدود الخمسة الى العشرة آلاف نسمة لم تتمكن من الخروج لانعدام وسائل النقل وفقر ذات اليد، وكنتُ مع أبي جابر ووالدتي من الذين يؤثرون عدم النزوح ليس لضيق اليد، بل عنفواناً وكبرياء وعدم الرغبة بالتخلي عن بلدنا.
بعد أيام قليلة اقترح المستر فولر للذين اجتمع بهم سابقاً أن يأخذوا برأي جديد له بأن يعلنوا يافا مدينة غير مُدافع عنها، وهو حال تعلنه المدن التي لا تريد الدمار لبيوتها وآثارها وعراقة موقعها وتاريخها، وهو ظرف معترف به عالمياً حيث تكون المقاومة شبه معدومة، وأن تسلّم بشروط إنسانية وبمعاهدة بين المقاتلين بإشراف هيئات دولية.
بعد أن وافق زعماء يافا ورجالاتها بهذا القرار وسرى خبره وأبلغت به الجريدة.. واختفى المقاتلون ومن بقي منهم تحوّل الى لصّ.. ذهبت الى المنزل لأقول لوالدتي ولأبي جابر: دعونا نغادر.. فالمدينة فارغة والجريدة ستنتقل الى غزة، وعليّ أن أذهب معهم.
لم يوافق أبو جابر على الذهاب الى غزة، خصوصاً وأنها امتلأت بالمهاجرين، كما أن معاملة المصريين للاجئين غير لائقة.. فأجبت إذن علينا الذهاب الى لبنان لأني سمعت وأنا في الجريدة بأن السيد محمد عبدالرحيم اتصل برقياً بشركة غرغور في بيروت وشميّل بالإسكندرية لإرسال بواخر لنقل المدنيين، وبما أنكم لا تحبون الذهاب الى مصر لم يبق لنا إلا بيروت.. لم يتحمس كثيراً بالبداية أبو جابر، لكن بعد ساعة أو أكثر قليلاً سرت إشاعات في حارات يافا تقول أن أعضاء البلدية وأعضاء اللجنة القومية، وآمر الحامية ميشيل العيسى وما تبقى من المقاتلين قد نزحوا، فانتشر الخبر كالنار في الهشيم بأن المسؤولين قد هربوا وتركوا أهلها طعماً للقتل والفتك على أيدي الهاغانا.. عندها رضخ أبو جابر للمغادرة، خصوصاً وأن غوغائية دبت بالشوارع وعمّ نوع من الفوضى أتاح الاعتداء على بعض الناس وانتهاك حرمات بيوت.
استطاع أبو جابر لتاريخ علاقته بالبريد بتأمين سيارة خاصة بالمؤسسة لتنقلنا مع حقائبنا التي وضبناها بسرعة الى البور الذي وجدناه مكتظاً، وتمكن أيضاً أبو جابر من تأمين تذاكرنا ودفع ثلاثة أضعاف الثمن المعتاد. لنجد أنفسنا على ظهر الباخرة ثلاثتنا، والدتي وأبو جابر وأنا، ننظر بانكسار وحزن للناس الباقين على رصيف الميناء.
أبحرت الباخرة عند المساء والهم يخيم على الجميع ومعالم يافا تتلاشى رويداً.. رويداً، مبنى الطابية، مبنى الحامية العسكرية ويبدو المدفع المنصوب على سطحها، رصيف الميناء، مبنى الجمارك القديم ويبدو من فوقه دير الروم ودير الأرمن، وفي الأعلى حارة الأشرفية ومبنى القلعة وساريتها الخالية من أي علم.
كانت السفينة تعج في داخلها وعلى سطحها الخارجي بعائلات وبقج وحقائب وأطفال ومسنين.. انكفأنا على أنفسنا حيث بدأ الدمع ينساب من عيني والدتي ولسان حال كل دمعة: "هل سنعود ونراكِ يا يافا؟".
وصلنا مع الفجر بور بيروت، كانت ساحة الميناء تعج بالنازحين، قادمين وجالسين في كل مكان ينظرون بأعين منكسرة ورجاء أن يؤويهم من يحب المساعدة.
تسهيلات المرور مفتوحة للجميع، بعض رجالات الدرك ببنادقهم الفرنسية ومسؤولو الأمن فقط يتفرسون بالوجوه ويتكلمون بالعربية مع القادمين خوفاً من أن يكون بينهم يهود.. أحياناً يطلبون بطاقات الهوية لقراءة الإسم ثم يؤشرون لهم بالمرور.
حملنا حقائبنا وخرجنا الى الطريق العام نتلمس من يهدينا الى أي أوتيل، وأجسامنا يهدّها التعب والنعاس، لتنبهنا أصوات أصحاب التاكسيات، فتناولنا الأقرب إلينا نسأله فضيلة إرشادنا الى أقرب فندق؛ فاقترح ساحة البرج.
أنزلنا بعد ربع ساعة أمام لوكنده أميركا في وسط الساحة الشاسعة الضاجة بالسيارات وعربات الترام الكهربائية التي لأول مرة نراها في حياتنا. كما كانت الساحة محاطة بأشجار النخيل ووسطها ما يشبه الحديقة.. ودائرها محال للبيع والشراء ودكاكين الصيرفة والحانات التي تسمع من خلالها نقرات أحجار طاولات النرد وروائح التنباك.. كما كان ما يوحي بصور مطربات وراقصات مرفوعة على مبان للهو والطرب من كباريهات وبارات لشرب الكأس.
كانت لوكنده أميركا قرب مبنى يحرسه رجلا أمن ضمن كوخهما الخشبي، فيما رجل ثالث يجيء ويروح حاملاً بندقيته للحراسة، وإذ هو مركز للدرك بيافطة عريضة وأرزة خضراء.
وجدنا غرفة كبيرة بثلاثة أسرة على أن يجدوا لي غرفة أخرى صغيرة مجاورة حين يغادر بعض النزلاء(...).
(...) مرت الأيامثقيلة على الرغم من شغفنا ببيروت وحياة بيروت فاستمريت على ارتياد مقهى القزاز الذي تعرفت فيه الى الشباب الفلسطينيين، والذين بدأوا يتناقصون يوماً بعد يوم، إذ آثر بعضهم العودة عن طريق البر والتسلل مشياً بالليل والعودة الى ديارهم أو العودة الى القتال مع أي من القوات العربية التي بدأت تشكل مجموعات صغيرة للقتال في سوريا وحماة وريفها بالذات الذي انطلق منه عزالدين القسام. الى أن بقي منهم شاب واحد توفق أن يعمل في مخبز كون والده من صنّاع الحلويات، فكان يعمل ليلاً ويأتي بعد الظهيرة للمكوث معي حيث نسرد سيرنا وآراءنا، وكان من الذين يتوافقون مع آرائي بأن الوقائع والإمكانات لا تساعد العرب في إعادة الفلسطينيين الى ديارهم.

اعتدنا قراءة الصحف اللبنانية مثل "التلغراف" و"لسان الحال" وجريدة "الحياة" حديثة الانطلاق، كما "النهار" ونستمع كثيراً لإذاعة لبنان، فتتعزز مفاهيم التشاؤم لدينا أكثر، لذلك آثر هذا الشاب العودة الى الدراسة النهارية لأخذ شهادة الثانوية بنية إكمال علمه الجامعي.
كان أبو جابر يصرف علينا تكاليف العيش كاملة حتى أنه كان يعطي والدتي يومياً بعض الأموال لتناولني إياها حتى لا أحس بأي انتقاص شخصي أو أي تنغيص بعدم القدرة على حيازتها.

المستقبل

 

حرره: 
ز.م