محمود درويش في نثره الجميل

بقلم: د. عبدالعزيز المقالح

كما هو شاعر كبير فهو ناثر كبير، لكن يخيّل لي أن المفتونين بشعره وهم من الكثرة بمكان لا يتوقفون عند نثره الذي لا يقل جمالاً وتماسكاً عن شعره، ربما لأن الذائقة التي لا تزال تسيطر على غالبية الشعراء لا تنظر إلى نثر الشاعر كجزء من تجربته الإبداعية وربما لأن النقاد الذين أولوا شعره جل اهتمامهم لم يقتربوا من منطقته النثرية تلك التي كتب الجانب المهم منها بدم قلبه، ومن بينها تلك المراثي التي كتبها في وداع عدد من رفاقه وأصدقائه من مناضلي الثورة الفلسطينية ومبدعيها، وقد أسعدني أن تظهر مراثيه النثرية في كتاب جنباً إلى جنب مع مراثيه الشعرية تحت عنوان «يكسر إطار الصورة ويذهب، المراثي» والكتاب تحرير سمير الزبن، وتقديم سعيد البرغوثي، وهو صادر عن «دار كنعان» للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق 2014م. وهنا تجدر الإشارة إلى أن محمود درويش لم يكن وحده الذي كتب نثراً ينافس الشعر، كل الشعراء الكبار كتبوا الكثير من النثر الذي يقترب بعضه من الشعر إلاَّ أنه كان الوحيد -من وجهة نظري- الذي نجح في استحضار الحالة الشعرية في جميع ما كتبه من نثر سواء في رسائله ومقابلاته أو في الكثير من رثائياته التي أودعها جانباً من مشاعره الذاتية كما في رثائه للمبدعين والشعراء أمثال: غسان كنفاني، كمال ناصر، معين بسيسو، توفيق زياد، نزار قباني، إميل حبيبي، وممدوح عدوان، يجدها الناقد في شعر درويش أيضاً، حيث لا يعتمد على اللغة التعبيرية بألفاظها المنمقة بقدر ما تعتمد على أبسط الألفاظ في بنيتها الواقعية، وإن كان فيها ما يذكرك بالشعر أو بأجوائه المفعمة بالتخييل والشجن العالي. ومعنى ذلك أن نثر محمود درويش ليس شعراً منثوراً، كما هو عند الآخرين من الشعراء، وإنما هو نثر يذكرك بمستواه الراقي بالشعر في إيجازه ونقاء لغته وتكثيف معانيه، يقول محمود في رثائه لغسان كنفاني تحت عنوان «محاولة في رثاء بركان»: «اكتملت رؤياك»، ولن يكتمل جسدك، تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق. ولم يكتمل حضورنا نحن الأحياء طبقاً لكل الوثائق، نحن الأحياء مجازاً، وأنت الميت طبقاً لكل الوثائق مجازاً. نحزن من أجلك؟ لا نبكي من أجلك؟ لا أخرجتنا من صنف المشاهدين دفعة واحدة وصرنا نتشوق الفعل، ولا نفعل أعطيتنا القدرة على الحزن، وعلى الحقد، وعلى الانتساب. وكنا نتعاطى الحزن بالأقراص، نتعاطي الحقد بالحقن، ونتعاطى الانتساب بالوراثة. مرة واحدة أعطيتنا القدرة على الاقتراب من أنفسنا، وعلى الرغبة في الدخول إلى جلودنا التي خرجنا منها دون أن ندري حين خرجت منا... أيها الفلسطينيون... احذروا الموت الطبيعي! هذه هي اللغة الجيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني. ويا أيها الكتاب... ارفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد! هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن. لا يكون الفلسطيني فلسطينياً إلاَّ في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودوا من رحلتهم لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه وبتكامل. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن». كتب محمود درويش هذه المرثاة النثرية/ الشعرية في العام 1972م عام رحيل المبدع والمناضل غسان كنفاني، وهي نموذج عاصف وحزين لبقية مراثيه. وسوف يلحظ القارئ في هذا الجزء من المرثاة وفي بقية المراثي أن نثر محمود درويش كشعره تماماً محكوم بالقضية التي نذر نفسه للتغني فهو ينطلق من واقع مأساة شعبه العظيم الواقع تحت مطرقة الاحتلال وسندان المنفى، لا يخرج من هذه الدائرة إلاَّ ليعود إليها دونما تكرار واجترار. ولا أخفي أنني قرأت بشغف كل نصوصه النثرية بما فيها المراثي المثبتة في الكتاب المشار إليه في بداية هذه الهوامش، ووجدت أن كل نص منها يجسد لحظة خاصة لا يشبه سابقها لاحقاً في الأسلوب، أو في طريق التعبير ولا يعيد إلى الأذهان شيئاً مما قيل في موضوعات كهذه تتجدد مع تجدد الحياة، ويختلف الحديث عنها أو لا يختلف من كاتب إلى آخر.