منى ظاهر صوت أدبي جديد مختلف من فلسطين

بقلم: عمر شبانة

الساحة الأدبية الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1948 تنتج كتابات وتجارب جديدة، وتقدم أصواتا ذات نكهة متميزة ومختلفة. من هذه التجارب، تجربة الشاعرة والباحثة منى ظاهر، بنت الناصرة، وحفيدة القائدة التاريخي ظاهر العمر. هنا إطلالة على أبرز معالم هذه التجربة وملامحها، دون الادّعاء بالإحاطة بها.

تجربة الكاتبة الشابة (مواليد 1975)، تتمدد على مساحة من النثر والشعر أساسا، عبر كتاباتها الشعرية والسردية، وآخرها "يوميّات شفق الزّغلول"، سبقته ثلاثة كتب شعرية هي "شهريار العصر"، "ليلكيّات"، و"طعم التّفّاح"، وثلاثة كتب نثرية هي "حكايات جدّتي موفادّت"، "أصابع"، و"خميل كسلها الصّباحيّ- خزفيّة نصّيّة لرفسة غزال". منى حاصلة هذا العام على الماجستير بامتياز، عن رسالها "حينما يتعرّى الجسد أمام مرآته: توظيف الجسد الأنثويّ والمثليّة الجنسيّة الأنثويّة في الرّواية النّسائيّة العربيّة الحديثة".

نبدأ من دراستها للماجستير، فعلى المستوى التطبيقي، تتناول الدراسة ثلاث روايات، حيث تعالج كيفيّة استخدام لغة السّرد في هذا التّوظيف في كلّ رواية من الرّوايات المدروسة والّتي تشكّل عيّنة الدّراسة وهي: "أنا هي أنت" للكاتبة اللبنانيّة إلهام منصور، صادرة في العام 2000؛  رواية "الآخرون" للكاتبة السّعوديّة صبا الحرز، صادرة في العام 2006؛  ورواية "رائحة القرفة" للكاتبة السّوريّة سمر يزبك، صادرة في العام 2008.

ومن خلاصات الدراسة، أن الجسد في هذه الرّوايات يعتبر وسيلة وغاية للمعرفة وامتلاك التّصوّر وتحقّق الوعي حول الذّات والآخر المتشابه والمختلف. فمن خلال الجسد تحاول الكاتبات الخوض في حوار مركّب مع الأشياء والعالم لفهم الأنا الفرد والآخَر الجماعة. وعبر هذا الجسد تتمّ مواجهة الذّات والمجتمع، وقراءة العادات والقِيَم والمفاهيم الموروثة ذات الخلفيّة الثنائيّة: المقدّس والمدنّس، الحلال والحرام، الاستقامة والخطيئة، وغيرها. إضافة إلى أنّ توظيف العلاقة المثليّة الجنسيّة الأنثوية يعني كسر التّابو المجتمعيّ، وهو محاولة لطرح أسئلة الجسد الّتي تهدف إلى مكاشفة الذّات ووجوهها المتعدّدة عبر التّماس بهذا الآخر.

كتابة عابر للأجناس

كتابة منى عموما تتكشف عن درجة عالية من الصدقية والحرارة، وجرأة مغلّفة بمجموعة من الأدوات الفنية والفكرية، تجعل من هذه الكتابة عالما قائما في ذاته، يمزج التاريخ بالجغرافيا، والواقعي بالمتخيّل، والطبيعي بالسورياليّ، فتَنتُج منه نصوصٌ ذات طبيعة تمثل روح الكاتبة بما تختزنه من ثقافة وحساسية مختلفة مشحونة بالشاعرية.

ففي "يوميّات شفق الزّغلول" تتكئ الكاتبة على لغة التداعيات، لغة حلمية حتى حدود الهذيان، نقرأ "بريقُ العشب. عشبُ الهذيان. هذيانُ اللغة. لغةُ النّسيان. نسيانُ الذّاكرة (...) موسيقى الحَجَر. حَجَر البداية. بداية الحبّ . حبّ وردة. وردة الفصول الأربعة: عناة". وعناة تتخذ هنا أبعادا عدة، فهي الكائن الأسطوري والواقعي المرتبط بالحياة والأرض، إنها "عناة القصيدة اللاتنتهي/ عناة الجرح الّذي يهبُ الألوان هويّتها/.../ الأرض عناة/ عناة الأرض الّتي تحلّ لعنتُها الشّرسة على من يهتك سرّ كينونتها../ عناة الجمرة المتأجّجة السّرمديّة، الموحّدة لكنعان وموقد بيته..".

وفي موازاة "عناة" هذه، تبني الكاتبة شخصية باسم "زهيّة" لتحمّلها الكثير من الحكايات، وتجعل منها حارسة للوطن، فهي بمواصفات المرأة الفلسطينية "ذات العينين البنّيّتين والبشرة البيضاء، هي المستفيقة على سقاية حوض نبات السّجّادة البنّيّة المتّشحة بالأخضر الزّيتونيّ. ومرصوص بجانب الحوض أصص الياسمين الّتي تؤثّث الحواشي المندلقة بابتسامة حنين عند زاوية الفم..". وتتنقل برفقتها بين الماضي البعيد والراهن القريب، فنقف عند أوّل الأوراق التي كُتبت بين 24/7/2006- 14/8/2006، حيث "في زمن الحروب يضحى الإنسان المعجون بكومة المشاعر والغرائز، المجبول بروح وفكر ومُكْتَسَبٍ.. يُضحى الإنسان المقتول رقمًا لا غير..".

إنها الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان، وعلى غزة، وقبل ذلك وبعده على الفلسطينيين الذين لم يَهجُروا بيوتهم في المثلث والجليل والنقب، وكذلك في القدس ورام الله، وتغطي الكاتبة مساحات واسعة من الصراع العربي الصهيوني، وخصوصا المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، ومحاولات محو هوية القرى العربية المتبقية لأصحابها الفلسطينيين، وتغيير معالمها وأسمائها، ففي "عكّا الّتي أضحت مختلطة، نقرأ: "أكو" بالحروف العربيّة، كما نقرأ كلمة עכו بالعبريّة"، وهو ليس بخطأ بالنّسبة للسّياسة العامّة، فالمدينة اسمها "أكّو" وكفى!". ثم ننظر فنرى كيف أن "عين حوض" العربية غدت "عين هود"، وهي الآن قرية الفنّانين والفنّانات.. جامعها غدا مطعمًا يقدِّم الأكل الشّرقيّ وقد تكون حلويّاته شاميّة".

يرتكز الكتاب، كما جاء في مقدمته "على وجوه وأحداث حقيقيّة، وعلى صور وحكايات مستوحاة من الواقع، مقتفيًا أثَر الحُفَرِ المفتوحةِ في الذّاكرة، معنيًّا بالمشاهد الّتي حَرص على التقاطها من نسيج الواقع.. وأيضًا ما كان من الأشياء المترسّبة في مياه التّاريخ". وتستخدم الكاتبة صيغا وأساليب عدة، من كتابة اليوميات "الّتي بلون الشّفق"، حيث "يتحرّك الضّوء صوب الإنسان والشّخوص المرتبطة بهذه الأرض، أو الّتي في تماس مع هذه الأرض، مع محاولة حثيثة لتدوين الموجود والمُغيَّبِ في المكان بما فيه من نبات وطير وحجر"، إلى أسلوب الحوار، ولغة البيانات، والتقرير الصحافي، ونشرة الأخبار، والومضة الشعرية، وسواها.

تتدفق الكتابة هنا، تتوالد الكلمات وتتدافع لتبني هذا النص المتشعب، المفتوح، العابر للأنواع، والعصيّ على التجنيس، تتداخل الطبيعة- البيئة مع المكان بمعماره وبشره، وتستحضر الكاتبة أزهار فلسطين وأشجارها وحجارتها، من الجبال والأودية، فتتناسل الأشياء من بيئة غنية بالعناصر، فنجد لوز الشّعاب وتين الصّحراء البرّيّ بثمره الأخضر المحتفظ بلونه بعد النّضج (...) ونَيْلَوْفَرِ البحيرة وزيتون الهضبة، وبَرْزَة الحُرش بأوراقها المتقابلة ذات الثّمار المدوّرة البنفسجيّة عند النّضج، والثّوم البرّيّ بأزهاره البيضاء.. وطير السّلوى السُّمّانيّ قتيل الرّعد، الزّائر للمكان ومُهاجِره والميت برعدة السّماء.

وتحضر صور من داخل البيت الفلسطيني ومطبخه، ومن ضمنها "أقراص اللحم بالعجين وقالب الحلوى المحشوّ بالجوز، وكَبيس الزّيتون الأسود مع أوراق الفِيجَن ذي الرّائحة القويّة الّتي تضفي على طعم حبّاته مذاقًا حادًّا ولذيذًا". ونقرأ بحميمية عن "أكْلة نبات الخُبّيزة مع البصل أو أوراق العِلتِ المقليّة مع البصل، أو طبقًا من نبات العَكّوب المطهوّ مع اللحم، إلى جانبه طبق اللُوف المقليّ بالزّيت مع البصل والمضاف إليه زيت الزّيتون والحامض والملح..".

المزج بين الواقعي والأسطوري

يختلط الواقع بالأسطورة، وتختلط دماء "عناة"، بما تمثله من دلالات على (الوطن/ الأرض)، مع ورقةٍ واقعية لشخص في نابلس "يُسقِط نفسه من العمارة، المبنيّة من حجر جمَاعِين النّابلسيّ الأبيض المائل للأزرق، وهو يفتح ذراعيه كما لو كانا جناحيّ بازٍ ذي الصّدر العريض والعنق الطّويل.. هي أوراق ما دوّنه من ذكريات دمٍ في المخيّم، يريدها أن تتناثر في كلّ الخرائط.. لأنّها شاهدةُ الواقع".

وربطا للإنسان بالبيئة، وبرغبة في التقدم أيضا، وهذه ثيمة أساسية في كتابة منى، نرى كيف ".. يُصرُّ يوسف، كإصرار نبات السّوّيد الفلسطينيّ على النّموّ السّريع بعد الحرق أو القطع، على أن يصلَ إلى صفّه ويحرص على التّعلّم، لأنّه يحبّ أن يفهمَ أكثر". كما نتعرف على أبو عصام الذي "فكّر وقرّر أن يبني بيت أسرته الصّغيرة.. من صخور الأرض هذه. حجر صوّان.. حجر جير.. حجر جرانيت.. حجر شايش.. حجر طبشور.. حجَرٌ مِنْ حِجْر سبسطية وحجران من بير زيت وثلاثة من جنين وعشرة من الخليل ومئات من جبل النّار وآلاف من النّاصرة و و و.. وحجارة لا تُحصى من مرارات أجساد". أي من أرجاء الوطن كله!
طبعا ثمة مقاومة للاحتلال وممارساته، حيث نسمع عن طفلٍ يولدُ.. يحملُ حجرَ مقاومة وينادي "سأبقى وعائلتي.. سنبقى على أرضنا"، ونسمع المرأة تتحدث عن حتمية العودة "شايفة كومِة هالحَديد هاد.. هُو المفتاح إلّي رح يضلْ مع أحفادي وأحفاد أحفادي لحد ما يرجعوا على الفالوجة". كما نرى أن "حجارة مبنى سرايا ظاهر العمر لا زالت تقبع في المكان من القرن الثّامن عشر، رغم الأهوال الّتي مرّت عليه".

وللوصول إلى حقيقة "شفق الزغلول"، وما هي رمزية كل من "الشفق" و"الزغلول" في الكتاب وعنوانه، تقول الكاتبة، في حديث خاص معها، إنه للوصول إلى فهم العنوان والنص لا بدّ من الرّبط بين "الشّفق" و"الزّغلول". وتتساءل: ما الشّفق؟ ما مميّزاته ودلالاته المادّيّة والمعنويّة؟ وتجيب من داخل النص "عناة/ هنا.. هنا يغسل نداها ما لطّخ زجاج الرّؤيا من الشّفق". والزّغلول؟ هل هو صغير الحمام "يطلّ زغلول صغير وهديل الحمام يرتفع/ يُزَقزِقٌ زغلول"؟ هل هو البرتقال الفلسطينيّ "زجاج النّهار الّذي يكشّر عن شمس طاعنة في البرتقال/دم الزّغلول"؟

الزّغلول هو-إذن، وأخيرا- هذا الفلسطيني الّذي يعاني من عمليّة إقصاء وخروج إلى العدم، جرّاء ما تحمله الفكرة الصّهيونيّة من كون هذه الأرض كانت بلا شعب. ولكن، هل سيصل الزّغلول إلى الشّروق بعد أن وصل الشّفق؟ هذا هو سؤال الكتاب والكاتبة في جوهره العميق. 

حرره: 
م.م