سحر خليفة والأرض والسماء

بقلم: مشلين بطرس

تنقيباً في التاريخ النوعي للكفاح الوطني الفلسطيني، ما برحت سحر خليفة مستمرة في كتاباتها الروائية عن التجربة الفلسطينية. فمن «الصبار» و«عباد الشمس» إلى «صورة وأيقونة وعهد قديم» وغيرها، ثم رواية «أرض وسماء»** التي تتناول المعاناة الفلسطينية في امتدادها إلى الوطن العربي. وفي هذه الرواية الجديدة تحاكي سحر خليفة أو تعيد إنتاج الواقع العربي روائياً عبر شبكة من العلاقات والمصائر المتناقضة والمتصارعة. فالكاتبة تحرص على الحبكة الشائقة التي تستميل القارئ بحكائيتها. وتقوم البنية السردية لرواية «أرض وسماء» على أحداث واقعية ترتبط بشخصية سياسية، أحدثت تغيراً في سطح العالم العربي، وهي شخصية أنطون سعادة. فقد توفرت الرواية على اصطفاء الأحداث والوقائع والشخصيات المرجعية، ثم أعادت صوغها وفق حبكة اكسبتها مشروعية الانتماء إلى الجنس الروائي، فكان للسرد مرجعيات عديدة حققت وظيفته المعرفية والجمالية بحيث يمكن أن يعاين القارئ هذه المرجعيات في الأغاني والعادات والتقاليد الشائعة في الحياة القروية وفي طقوس الأعراس.

كما تتوضح هذه المرجعيات في الحقائق الجغرافية والإثنولوجيا (القدس، نابلس، لبنان، الجميزة) وفي الوثائق التاريخية التي تشير إلى النكبة العربية واحتلال فلسطين وبعض المجازر التي ارتكبتها الصهيونية، والانتداب الفرنسي، وأنطون سعادة الذي قدمت الرواية لنا معلومات عن حياته وعن حزبه بنجاحاته وإخفاقاته.

 

البطل المهزوم

 

يقول نيتشه: فعندما نهاجم الحرب، يمكن القول إنها تجعل المنتصر غبياً، والمهزوم خبيثاً. أما عندما نحبذ الحرب، فيمكن القول إنها تجعل الأمر همجياً. فهل كان أنطون سعادة ذاك المنتصر الغبي؟ أم كان ذلك المهزوم الخبيث؟؟ وهل لغة الحرب هي الأجدى في عالمنا، أم ان لغة الحوار محذوفة من قواميسنا؟ ألم ينصح سعادة بأن يذهب الى المقبرة فيحيي الرمم، وهذا اسهل بكثير من العمل مع هذا الشعب؟ وهنا يعيش القارئ مع الحدث الروائي وتفاصيل إعدام سعادة، ليدهش لموقف تلك الشخصية التي، وعلى الرغم من مشاهدة سعادة لصندوقه الأبيض الذي يهلل منتظراً احتضانه، إلا ان جفناً له لم يرف، ولم يتذمر، بل كان يثني على قاتليه شاكراً إياهم، وهو بذلك يتماهى مع المسيح في موقفه. فالمسيح قال «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» كذلك لم تفارق البسمة سعادة والهدوء لم يغادره حتى اللحظة الأخيرة قبل اطلاق النار عليه. وبموت سعادة ينتهي القسم الأول من الرواية بمأساة فظيعة، ليأتي القسم الأخير متمماً الأحداث الثانوية التي نسجت منها حكاية سعادة. لنجد أن عنصر الوصف كان طاغياً في الرواية؛ فالراوي الضمني الذي هو قناع المؤلفة، اسهب في وصف شخصية سعادة الخارجية والداخلية، فالوصف الخارجي تناول شعره الأسود الكثيف، سمرته الحادة، قامته الطويلة... الخ. أما الوصف الداخلي جاء في استبطان دوافع سعادة وتفسير سلوكه ونوازعه وطباعه، كما شمل الوصف أيضاً وبمنحيه الخارجي والداخلي بعض الشخصيات التي تحركت في الرواية مثل ليزا، والأمينة جولييت، وسعد. كما كان هناك وصف مسهب للزنزانة التي استضافته فترة من الزمن، لذلك تناغم الوصف بأشكاله السابقة ووظائفه مع المتن الحكائي للرواية أضفى على السرد جاذبية ادخلت الرواية في حيز التشويق وفضول المتابعة.

 

شخصيات روائية

 

أما فيما يخص الشخصيات الروائية، فنجد ان شخصية سعادة استأثرت بالتبئير السردي، ووجهت دفة تفاعلاته ومنها انطلقت وتلاقت عندها مجمل الأحداث وشبكة العلاقات التي تربطها بمحيطها، فقد أخذت شخصية سعادة الروائية تتناوب سردياً تارة بصيغة المتكلم وذلك عندما افسحت الكاتبة في المجال للسرد المباشر والرسائل والمذكرات، وتارة بصيغة الغائب الذي أتاح التغلغل في أعماق الشخصية وتفاصيلها وصفاتها، وأخيراً بصيغة قدمتها اغلبية الشخصيات التي كانت قريبة او بعيدة عن شخصية سعادة عبر الحوار معها، او الوصف الخارجي والداخلي للشخصية، لتكون شخصية سعد امتداداً لشخصية سعادة، فإن سعد شخصية نموذج للشخصية المركبة التي تمتاز بالتحولات الدرامية والتراجيدية التي تطرأ على سلوكها وأفعالها ومواقفها داخل البنية الحكائية، لنراه ينتقل من حال إلى حال، فإحساسه بالقهر من الاستعمار دفعه إلى المواجهة، وتفجير نبع مياه مستوطنة كريات شالوم، ما جعله لاجئا إلى عين الغزلان، وبذلك يكون قد خسر دراسته وعلمه، ليعيش في حالة من الصراع مع ماضيه وحاضره، مع الثورة والاحتلال ليفكر بطريقة للسفر إلى كندا حتى يتمكن من استعادة حريته واستكمال تعليمه، فهو شاب يدرس الهندسة ويطمح إلى ان يكون مهندساً له بصمته التي تميزه.

أما الشخصية المركبة الثانية في الرواية فقد كانت للحجة فطيمة تلك الشابة الجميلة المنطلقة، التي درست المحاماة، وتخرجت بذكريات معلقة على الجدار في صورة لها ترتدي فيها ثوب التخرج، يطل من فتحته فستان قصير، تحمل بيدها شهادة ملفوفة مربوطة بشريط، لنجد ان حالها انقلبت فأصبحت معتزلة ذات فكر محدود، يميل إلى التعصب وعدم تقبل الآخر.

أما شخصية الخوري، حامي الكنيسة الرومية، فهي من الشخصيات الروائية العجائبية التي تميزت بالخروج على قوانين الواقع والمألوف، فعندما سأل نضال في حوار دار معها، هل تتفق مع اقواله، أم مع أقوال الرب الذي قال: من ضربك على خدك الأيمن.. الخ فأجاب الخوري: أسلخ له الأيسر. وعندما كان الخوري يتلفظ بكلمات سليطة ومشاكسة فيثير دهشة محاوريه فكأنه ليس كأي رجل دين لا يخالف أقوال (الرب) وتعاليمه بل كان على العكس تماماً، يرى في العنف والقوة مقاومة لإجرام الصهاينة ووحشيتهم، لنجد ان حتى العنزة نعيمة لم تسلم من شر صهيونيتهم، فقد وجدت مذبوحة خارج الزريبة. وفي الرواية اسقاط على لسان ليزا، فهي تتساءل رسالة إلى أمين: أترانا يا أمين عشنا مرحلة طيور البطريق؟ لنجد ان طيور البطريق تتجمع في مجموعات كي تحمي نفسها من الاعداء والغزوات، وبذلك يعيد الأدب المقاوم اثبات وجوده وتكرار مآسيه بأساليب روائية أكثر تقانة وحداثة، ليبقى السؤال معلقا في فضاء الاحتمالات هل القدس أبعد من تحقيق الأحلام، أم انها قريبة قرب المريخ من الأرض؟

 

* شاعرة وناقدة سورية مقيمة في لبنان.

** «أرض وسماء» أحدث رواية للروائية الفلسطينية سحر خليفة (بيروت: دار الآداب، 2013).