أهداف العدوان كما تراها إسرائيل..
فيما تواصل الدوائر الإسرائيلية الرسمية تبرير الجولة الأخيرة من العدوان على قطاع غزة، واستمرت لأربعة أيام، بالقول إنها استهدفت إحباط عملية عسكرية في إسرائيل يجري التخطيط لها من قبل لجان المقاومة الشعبية، فإن أقل القليل من المتابعين، صحافيين كانوا أم سياسيين، توقفوا أمام هذا المبرر الذي لا يصمد أمام الوقائع الأخرى.
تستطيع إسرائيل أن تسترسل في شرح ادعاءاتها بوجود عملية عسكرية وأن تستفيض في تحريض الطرف المصري، باعتبار أن تلك العملية المزعومة ستنطلق من الحدود المصرية مع إسرائيل، ولكن إذا كان هذا هو المبرر الذي دفع إلى اتخاذ قرار بشن عدوان وحشي ونوعي من المستوى الذي وقع، فلماذا إذاً ركزت الحملة الإسرائيلية بعد ذلك على كوادر 'الجهاد الإسلامي'؟ إذا وضعنا جانباً التكهنات التي يسوقها المحللون والمراقبون، وتتحدث مرة عن أن إسرائيل تريد اختبار مدى نجاح القبة الحديدية في صد الصواريخ الفلسطينية، ومرة على أنها تريد التعرف على نوعيات الأسلحة والصواريخ التي دخلت إلى قطاع غزة منذ الحرب السابقة نهاية العام 2008، فإن متابعة التصريحات الإسرائيلية الرسمية تذهب في اتجاه آخر.
كنا قد تناولنا اجتهاداً في مقالتنا السابقة ليوم الاثنين الماضي في 'الأيام' جملة الأهداف التي تقف وراء العدوان الإسرائيلي الأخير، وحتى لا نقع في التكرار نركز على الاستهدافات التالية، وذلك من واقع ما صدر من تصريحات وتلميحات من قبل مسؤولين إسرائيليين.
الهدف الأول يتصل بفحص أبعاد ومدى جدية التحولات السياسية لدى حركة حماس، ومن بينها مدى صدقيتها إزاء الالتزام بالتهدئة والتحول عن استخدام السلاح كلما سنحت لها الفرصة، بما في ذلك لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، ومدى قدرتها على ضبط الأوضاع في القطاع.
في الواقع، فإن حركة حماس قد أثبتت بالسلوك العملي، رغبتها في الانتقال بقوة إلى حقل العمل السياسي بكل ما يفرضه ذلك من التزامات، وما يتطلبه من سياسات ومواقف، تقدم الحركة على أنها حركة سياسية في الأساس رغم التزامها برنامج المقاومة.
وفي هذا الإطار، تأكدت صدقية الحركة إزاء فهمها للتهدئة، والتزامها بها، من موقع رؤيتها لمصلحتها كحركة، ورؤيتها للمصلحة الوطنية بصفة عامة. على أن التزام الحركة بالتهدئة، وعدم الانجرار وراء موجة إطلاق الصواريخ من واقع إدراكها للسعي الإسرائيلي الذي لم يتوقف عن محاولة استدراج ردود فعل فلسطينية قوية تبرر لإسرائيل توسيع وتكثيف عدوانها على القطاع، ومن واقع كونها الجهة التي تتحمل المسؤولية الأولى عن الأوضاع في قطاع غزة.
هذا جعل حركة حماس وحكومتها في وضع حرج، فهي لا تستطيع أن تمنع الفصائل من ممارسة حقها في الرد على عدوان إسرائيلي صعب من النوع الذي وقع، ولا تستطيع في الوقت ذاته أن تترك للآخرين تحديد طبيعة وحجم هذا الرد بما يتجاوز الخطوط الحمر، وبالقدر الذي يستجر رداً إسرائيلياً موسعاً وشاملاً.
في هذا الإطار جاءت الأسئلة اللاحقة، لتشكك في قدرة حركة حماس، على ضبط الأوضاع في إطار السقف الذي تسمح به الحركة، ويؤكد صدقية توجهاتها نحو العمل السياسي.
في هذا الإطار ومهما وقع، فإن مَن يعيش في قطاع غزة يدرك بأن حركة حماس قادرة على ضبط الوضع، لكن هذه العملية مؤجلة إلى حين زوال غبار العدوان الإسرائيلي، وهذه حقيقة تدركها حركة الجهاد الإسلامي ولجان المقاومة الشعبية والقوى الأخرى.
يلفت النظر هنا أن إسرائيل التي تعمل كل الوقت وبكل الوسائل لتعميق وتأبيد الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي، قد استهدفت من عدوانها الأخير تقسيم المقسم، بمعنى خلق تناقضات بين حركتي الجهاد الإسلامي ولجان المقاومة وبين حركة حماس.
التركيز الشديد على حركتي الجهاد والمقاومة الشعبية، من قبل إسرائيل، يستهدف استدراج رد قوي من قبل هاتين الحركتين، بما يخرجهما من دائرة الطوق الحمساوي، وربما صدرت بعض الإشارات أحياناً بما يشير إلى أن هاتين الحركتين غير راضيتين عن موقف 'حماس' العملي من العدوان الإسرائيلي.
وربما تنتاب الدوائر الإسرائيلية أوهام من نوع أن إيران ستحاول إثارة فوضى في المنطقة عبر علاقاتها مع حركتي 'الجهاد' و'المقاومة'، اللتين تتهمهما إسرائيل بموالاة إيران، غير أن مثل هذا الوهم من الصعب أن يتحول إلى حقيقة بالنظر لوعي القوى الفلسطينية لمثل هذه الدوافع.
ثانياً: أرادت إسرائيل اختبار مدى ردود الفعل العربية، وخصوصاً المصرية إزاء أي عدوان ترتكبه ضد قطاع غزة حالياً ولاحقاً.
في اليوم الثالث من العدوان، كان نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية قد أبدى ارتياحه وسعادته، من غياب وضعف رد الفعل العربي والمصري وأعلن أن التجربة نجحت، ولذلك لم تبد إسرائيل حماساً للقبول بالتهدئة عبر الوساطة المصرية التي بدأت تتحرك منذ اليوم الأول.
على أن الأوساط الإسرائيلية انكفأت، وعادت لتستجيب للمساعي المصرية، بعد أن أصدر مجلس الشعب المصري بياناً ساخناً يطالب بطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة وسحب السفير المصري من تل أبيب ومراجعة اتفاقية كامب ديفيد.
صحيح أن مجلس الشعب المصري ليس صاحب القرار السياسي، لكن هذا البيان دق لدى تل أبيب أجراس الخطر من القادم، خصوصاً وأن مجلس الشعب يعكس رأي الشارع المصري، وبيده تحريك هذا الشارع.
وبعيداً عن الادعاءات فارغة المضمون، فإن الموقف والتدخل المصري، هو الذي شكّل العامل الحاسم في إرغام إسرائيل على قبول التهدئة.
في كل الأحوال، فإن هذه التهدئة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فالباب لا يزال مفتوحاً على غاربه أمام إسرائيل لتمارس عدوانها وقتما تشاء، وهي، أي إسرائيل، قامت بخرق التهدئة عبر ساعات قليلة من سريان مفعول اتفاق التهدئة حين أطلقت قواتها الحدودية النار على موكب تشييع اثنين من الشهداء، ثم أتبعت هذا الانتهاك بآخر حين قصفت في اليوم التالي مخزناً للأخشاب وسط مدينة غزة.