فيلم «عمر» للفلسطيني هاني أبو أسعد.. الجدار والحيطان

بقلم: ايمان حميدان

بطل الفيلم واسمه عمر (لعب دور البطولة آدم بكري) يتسلق الجدار الذي بناه الاحتلال الاسرائيلي كل مرة يريد لقاء حبيبته ناديا. انه الحب يدفعه لتسلق ذلك الجدار وللمجازفة بحياته التي يكاد يخسرها قبل كل لقاء غرامي، ذلك انه ما أن يصل إلى اعلى الجدار حتى تنهمر عليه رصاصات جنود الاحتلال. يعمل خبازاً ويجمع ما يحصل عليه من نقود بدقة بانتظار تحقيق حلمه والزواج ممن يحب.
له في الجهة الاخرى من الجدار صديق الطفولة امجد عازف العود، وطارق المناضل بوجه الاحتلال، وهو شقيق ناديا. في احد المرات يكون عمر عائداً من لقاء سري مع حبيبته ناديا فتطارده سيارة الامن الاسرائلي تفتشه تهينه توقفه على حجر لساعات، يداه مرفوعتان خلف رأسه، بينما افراد الامن يلعبون قرب سيارتهم العسكرية المتوقفة يشاهدون الأفلام يتسامرون ويتضاحكون..... طريقة متبعة في إثارة غضب الشباب الفلسطيني المهان الذي عليه ان يقف لساعات أمامهم من دون سبب ولا تهمة. وحين اقترب ليسألهم اذا هم انتهوا من فيلمهم واذا كان في مقدوره الذهاب ضربوه بعقب الرشاش، وهو الأعزل، وأوقفوه مرة اخرى على رجل واحدة هذه المرة. كل هذا التعسف والبربرية ولدا عند عمر شعوراً بالأسى والكره اتجاههم وأراد الانتقام. وطارق الذي يقاوم الاسرائيليين هو افضل من يلجأ اليه عمر في وضع كهذا. بدأ يعلمهما هو وأمجد على استعمال الرشاش.... وحين اصبحا خبيرين في إطلاق النار قررا القيام بعملية ضد المركز الذي ينتمي اليه الجنود. ذهب الرفاق الثلاثة، بعد ان سرق عمر سيارة وخطط لها طارق وكان المطلوب من امجد ان يطلق هو النار. اطلق امجد النار وقتل جندياً إسرائيلياً. يهرب طارق ويعتقل عمر ويتعرض لأنواع تعذيب في السجن ولا يتم إطلاق سراحه الا بوعد منه أنه سيأتي لهم بمكان طارق. اعتبر رجال الامن الاسرائيليون ان طارق هو من قام بإلطلاق النار على الجندي. معلومات خاطئة عمداً، لنكتشف في نهاية الفيلم ان أمجد صديق الطفولة هو من أفشى بالعملية متهماً طارق بالقيام بها. إنها متاهة الابتزاز المعنوي والجسدي والنفسي التي يتعرض لها الشباب الفلسطيني، متاهة الابتزاز اليومي بحيث من الصعب على من دخل فيها العودة عنها، بل هو على العكس يضطر إلى الاستمرار ولو عنى ذلك إفشاء أسرار الأقرباء والأهل والأصحاب. هكذا اضطر امجد في فترة سابقة إلى العمل كمخبر لدى جهاز الامن الاسرائيلي
هنا ينجح هاني أبو أسعد إلى حد بعيد في تقديم آليات المخابرات بابتزاز السجناء بواسطة جميع انواع الضغوطات الجسدية والنفسية، وحتى العاطفية، إذ قام المحقق بابتزاز عمر بعلاقته بناديا، جاعلا ثقته بها وبحبها له تهتز وتضعف. إنها مهنة اجهزة المخابرات وحرفتهم التي وقع بين براثنها عمر من دون ان يدري وكلّفته عزيمته وأحلامه وصداقته وحبه
حادث صغير في يوم من أيام عمر العادية غيّر مسار حياته كلها واضطر بعده ان يأخذ قرارات تتعلق بمصير حياته وبالمشاريع الشخصية التي كان يخطط لها. إلا أن هذا كله بدا فوق طاقته، وكم بدا المشهد مؤثراً بعد ذلك حين حاول التسلق على الجدار كالعادة إلا أنه لم يستطع وراح يبكي. رجل مسن كان يمر بالصدفة من هناك ساعد عمر على التسلق من جديد. مشهد ناجح من الصعب ان ننساه.

«ما فيك تعمل شي»

أمجد خان صداقة الطفولة، وهو في نفس الوقت مغرم بناديا حبيبة عمر ويحاول بكل الوسائل الحصول عليها زوجة له. يقدم هاني ابو اسعد الشباب الفلسطيني كما قدمهم أيضاً في فيلم الجنة الآن، جيل امام افق مسدود من حيث المستقبل والعمل والحياة بكرامة. دائماً الشبان يسعون إلى القيام بدور ما إلا أنهم يصطدمون بأرض الواقع الذي هو الاحتلال ولا مفر من القيام بأي شيء ما دام الاحتلال قائماً. «ما فيك تعمل إشي كل ما هو في احتلال»: هذه هي الجملة شبه الوحيدة التي نطقت بها محامية عمر عندما زارته في السجن بسبب مقتل الجندي الإسرائلي التي تلعب دورها يائيل ليرار الشخصية الاسرائيلية المعروفة والمساندة للقضية الفلسطينية والتي قامت بترجمة الأدب العربي إلى العبرية.
الفيلم الذي عُرض لأول مرة في باريس في معهد العالم العربي مساء الاثنين 23 ايلول بحضور مخرجه، تميز بجمالية أخّاذة، حيث تم التصوير في شوارع غزة وأزقتها في اوقات مختلفة من النهار والليل. مشاهد لا كلام كثير فيها، يكفي للمشاهد ان ينظر فقط ويقرأ المفارقات التي قدمها المخرج عمداً: ان يجلس عمر في ساحة عامة قرب كشك هاتف ينتظر مكالمة من الفار طارق، فيما لافتة دعائية كبيرة جداً خلفه تروّج للأمان ولمشاريع المستقبل. مزاج مرح حتى في اكثر اللحظات قساوة، مزاح أسود أحياناً، الا ان اللافت ان الفيلم خلال ساعة ونصف الساعة استطاع ان يبقى بعيدا عن أي جو خطابي سائد حول وضع الفسطينيين في الداخل وفي الاراضي الفلسطينية وعلاقتهم مع الاحتلال. هو فيلم سياسي بامتياز، ذو نظرة حرة عميقة وواعية للواقع.
الجدار الضخم والعملاق الذي هو ايضاً يلعب دوراً أساسياً في فيلم هاني ابو اسعد، يقسّم الفلسطينيين والعائلات والأقرباء والأصدقاء قسمين، بحيث يجبرون على تسلق الجدار للوصول إلى الجهة الاخرى حيث الذكريات والأحباء. بانوراما سينمائية لمجتمع فلسطيني مزقه الاحتلال والحروب وقسمه جدار الاحتلال ايضا. والجدار، كما قال هاني ابو اسعد، لم يبنَ لحماية الاسرائيليين من العمليات ضدهم بل بني لتقسيم النسيج الاجتماعي الفلسطيني وشرذمته. وهو رمز للشرذمة النفسية والمعنوية والجغرافية التي يعاني منها المجتمع كما، الافراد كما بطل الفيلم عمر.
عمر فيلم مؤثر حاز على إعجاب لجنة الحكم وتصفيق الجمهور الفني في مهرجان كان. فيلم جميل فيه خلطة ناجحة من الثريلر والكوميديا والجمالية. تلك المواصفات التي قال عنها هاني ابو اسعد، خلال لقائه بالجمهور، إنها مرتكزات فيلمه الثلاثة. فيلم يكاد يبدو تكملة لما بدأ فيه في فيلم الجنة الآن.. الشباب الفلسطيني الحائر الذي يعيش في ظروف قاسية يحاول الاحتيال عليها بالحلم والإرادة، إلا أن الشبان يصلون أحياناً إلى حائط مسدود بسبب الاحتلال والقهر الذي يعيشون، ثم يبرز العنف كنتيجة وكردة فعل.
صورت معظم المشاهد في قطاع غزة وأنتج الفيلم بتمويل فلسطيني بحدود 95% و5% فقط بدعم من دبي، وهذا ما يدعو إلى التفاؤل ان تستطيع السينما الفلسطينية تقديم فيلم مميز بإمكانيات محلية وعربية.
اللحظة الأخيرة التي يخرج منها عمر من الاهتمامات الشخصية ويصوب المسدس نحو الشخص الحقيقي الذي قتل حلمه وأمله ورغبته بالبقاء. الشخص الذي افقده ثقته بحبه وبالمرأة التي احب. كأن تلك اللحظة الاخيرة كانت لتوقظ انشغالنا نحن بقصة عمر، بقصة حياته وحبه وخسارته، حلم الزواج بناديا لمصلحة صديق الطفولة امجد. إنها لحظة الاستيقاظ لتقول: انتبه العدو فهو ليس بين الاصدقاء ولو اضطروا إلى الكذب والخيانة تحت التهديد بالسجن أو بالتصفية.
«عمر» فيلم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الأخير..... فيلم حقيقي عن الاحتلال وعن معاناة الشعب الفلسطيني، نجح في الوصول إلى قلوبنا وإلى وجداننا لأنه ببساطة بدون كليشيهات ودون خطاب سياسي مباشر.

حرره: 
م . ع