عجوز "سالم" و"جوّال" "قلنديا"
عند كل نقطة اتصال اضطراري مع الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية بائع قهوة وشاي وبعض الساندويش البسيط وغيرها من السكاكر؛ هؤلاء يعتاشون على قلق طالبي التصاريح، وجوع منتظري بلادة المجنّدات، وشهونات الأطفال مرافقي إمهاتهم لحضور محكمة أب أو قريب، يمكن رصدهم كمعالم ثابتة في معسكرات بيت إيل وسالم وحوّارة وعوفر وغيرها.
من الجلّي أنهم بحكم معاشرة المعسكرات والجنود يألفونهم وينسجون معهم العلاقات ويشعرون أن المعسكر باب للرزق والتكسّب الفاحش غالبا- ، وكثيرا ما يأنس لهم الجنود ذوو البشرة البيضاء –تحديدا - ويستعذبون احتساء القهوة العربية يصنعها عربي متذلل - ، وبحسبة بسيطة يجني ذاك العجوز بعربته عند مدخل معسكر سالم شمال الضفة مبلغا فلكيّا؛ فهو يحتكر ألم الفلسطينيين على بوابة المعسكر، وينتفع بكل إجراء احتلالي ضد المطلوبين للمحاكمة أو التحقيق؛ فعلى سبيل المثال يمنع الجيش الإسرائيلي على الداخلين إلى المعسكر حمل أي هاتف خليوي، والعجوز السمج ذاك يعرض على أبناء شعبه الاحتفاظ بهواتفهم الخليوية حتى يخرجوا من المعسكر لقاء مقابل مادي، وتنقلب فظاظته مع أبناء جلدته إلى تذّيل وتذلل للجنود، وتزيد انحناءة في ظهره المشهد سفورا.
من الثابت أن العجوز ذاك وجه من وجوه عدة متنوعة لفئات عريضة ترتبط بمصالح مع المستعمِر، ويرتبط بقاؤها وانتفاعها ببقائه، بل ببقاء كل مفاصل مشروعه الاستعماري؛ ففي كل جزئيّة صغيرة هنالك من يؤدي دور الطفيليّ المتعاون مع الاستعمار، وبالضرورة تتباين درجات السفور والانكشاف بين متعاون وآخر، بدءا بالعجوز القبيح وصولا إلى الموظّف بدائرة تخصص بكل طاقمها وأموالها للتفاوض مع الاحتلال، فالتفاوض هنا وظيفة لا أكثر ولا أقلّ.
من أسوأ ما تجلبه هذه الفئات على مجموع المستعمَرين أنها تطرح الاستعمار والاحتلال بسياساته ومشاريعه كمعطيات ثابتة، لا يمكّن التعامل معها على أنها قابلة للتدمير أو الإنهاء، بل ينحصر التفكير لدى المتعاون في كيفية الاستفادة، ولدى السواد الأكبر في الشكوى والتباكي، وفي حال كان المتعاون ذا سلطة ونفوذ وتأثير سيجمّل التعاون والتواطؤ مع الاحتلال، ويثبّت لدى الكثيرين أن الحكمة والمنطق والسلامة تقتضي التعامل مع كل إجراء استعماري كحقيقة ثابتة، وهذه العملية تحتاج جهدا دؤوبا طويلا وأساليب ذكيّة مؤثرة، وستفعل فعلها في السواد الأعظم من المضطهدين، حتى خيالهم يغدو مستعمَرا.
على لوحة ضخمة معلقة على الشارع الأهم في الضفة؛ ذلك الواصل بين رام الله والجنوب، والمغتصب بمعبر قلنديا، هناك على بعد عشرات الأمتار من علامة الإذلال والفصل الأهم في السنوات الأخيرة فلسطينيا؛ تعلن شركة الاتصالات الخليوية الأكبر – جوال – عن خدمة هدفها البريء" تزويد الفلسطينيين بالمعلومات عن حركة السير على معبر قلنديا"، وكل ما هو مطلوب من ابن القدس – أو غيره- المعذّب لسنوات على المعبر بفعل الازدحام والإذلال وممارسات الاحتلال؛ أن يبعث برسالة قصيرة لجوال لترد الشركة عليه بتلخيص لأحوال المعبر، وللأمانة وكجزء من حق طبيعي مقابل الخدمة؛ ستكلّف الرسالة بضعة شواقل.
حل سريع بدل الانتظار لساعات طوال في أجواء مخيم قلنديا وبين كل سيارات الضفة المزدحمة هناك، حل سريع يجنّب المتعامل مع جوّال وخدمتها الجديدة الاختلاط بأبناء شعبه ومشاركتهم المعاناة، فبالضرورة لا علاقة للرسالة بإذلال الفلسطيني على يد الجنود، فهذه حقيقة لا مجال لتجاوزها مثل المعبر تماما والجدار الممتد عنه، هذه حقائق لدى جوال والكثيرين كالشمس والسماء، لا مجال للتفكير بأي طريقة سوى الاستسلام لها؛ عفوا ... بالنسبة لجوال هنالك ذكيّ فكر بتحويل الاستسلام إلى فائدة.
ستجني جوال مبالغ طائلة بالضرورة من وراء خدمتها المميزة والمتصلة بمعاناة الفلسطينيين، وسيبقى المعبر راسخا على الأرض ما زال أكثر من راسخ في مخيّلة الفلسطينيين وقناعاتهم، وسيبقى الجدار، وبدل أن يظل قبيحا طارئا نشازا؛ سيرسم الكلّ عليه – وكثيرون يتقاضون مالا ليرسموا - فهو ثابت موجود ولا مجال للتفكير بإسقاطه أو على الأقل سقوطه.
قد يتطوّر التعاون بين جوّال والإدارة المدنية الإسرائيلية من باب خدمة الزبائن؛ فيتم الإعلان عن إغلاق المعبر برسائل قصيرة، ولن يضطر الجيش الإسرائيلي للتعامل مع الحشود البشرية تريد أن تحافظ على حقها في الاعتقاد بأن الطريق ين رام الله والقدس لا تزال سالكة.
قد يستجلب العجوز على بوابة معسكر سالم تعاطفا إن بدأ بالحديث عن أولاده السبعة وزوجته المريضة وأخته الساكنة لديهم وليس لهم من سبيل للحياة سوى هذه العربة بما حملت، قد تبكي أم أسير تنتظر محكمة ابنها في المعسكر وهي تسمعه يتحدث عن سعر الدواء، واضطراره للتعامل مع الجنود والتذلل أمامهم حتى لا يطرد من أمام المعسكر، ولكن بالضرورة لن يفلح أيّ كان في شركة الاتصالات "الوطنية" جوال في إقناع أي ساذج أنهم مضطرون للاستفادة من معبر قلنديا وسياسات الاحتلال.
ملاحظة في سيّاق وثيق الاتصال:
في محيط رام الله تدفع أموال طائلة للرسم على الجدار الفاصل وتخصص وزارة لشؤونه ويغدو أشبه بالمعلم السياحي؛ وفي غزة يتم التعامل مع الجدار وفق منطق بسيط؛ احفر نفقا من تحته أو أطلق صاروخا من فوقه، وإن ضاقت عليك .. فجّره.