مخرج أميركي يهودي ينفي أسطورة المنفى اليهودية

بقلم: سليمان الشيخ

 

تذكر مصادر تاريخية عدة أنه في القرن الأول الميلادي، دمر الرومان مدينة القدس، وذلك بسبب ثورة قام بها اليهود سكان المدينة آنذاك، حيث تم تدمير هيكل اليهود، فقررت السلطات الرومانية إخراجهم من المدينة، فلجأوا إلى منطقة الجليل في الشمال الفلسطيني. إلا أن هناك يهودا أوجدوا أسطورة المنفى، وأنهم عاشوا مآسي المنافي كما يتردد في الدعاية البروبوغاندا اليهودية. وتمت المتاجرة بذلك عالميا. إلا أنه وجد من بين اليهود أنفسهم من نفى هذه الدعاية، وبيّن إنها "مفبركة"، ومشغولة دينيا وإعلاميا لكسب العطف والتأييد العالمي لأطروحات يهودية أخرى.
من بين اليهود الذين يرون رأيا مغايرا لرواية المنفى؛ يمكن ذكر إيلان زيف، وهو مخرج أميركي يهودي، أخرج فيلما تحت عنوان "المنفى.. نبش أسطورة" تم عرضه في مدينة مونتريال الكندية، ومدته 97 دقيقة، وهو فيلم وثائقي سياسي تاريخي ناطق باللغتين الإنكليزية والفرنسية. قال زيف بعد عرض الفيلم أمام الجمهور"إن هناك من ينظر إلى التاريخ بعيون غير متجردة وغير موضوعية".
ومما يجدر ذكره أن ما هو متداول في ما يتعلق بالثورة اليهودية في مدينة القدس زمن الحقبة الرومانية، يمكن تلخيصه حسب النص التالي: "بعد أن خرّب (تيطس) القائد الروماني مدينة القدس في العام الميلادي السبعين، عاد اليهود فعصوا ثانية على عهد الإمبراطور الروماني هدريان، فأرسل إلى القدس جيشا عظيما، أخضعهم ودمر القدس عام 131 للميلاد، ثم جدد بناءها في العام 136 ميلادية، وحكم بالموت على كل يهودي يدخل القدس لفترة زمنية معينة عند ذلك وجه اليهود قواهم وأنظارهم نحو الجليل" بحسب ما جاء في كتاب "موسوعة المدن الفلسطينية" وسكنوا في الجليل أغلبيتهم بمعنى أنه لم يتم النفي أو الطرد أو الانتقال إلى خارج فلسطين، إلا في أقل حالاته وبشكل فردي وربما طوعيا، بعكس الأسطورة التي روّجها الإعلام اليهودي بعد ذلك. وهذا ما ساهم في كشفه وتبيان خطإه فيلم "المنفى .. نبش أسطورة" لإيلان زيف، حيث جاء في المتابعة التي كتبت في صحيفة الحياة (12/7/2013) عن الفيلم: " يتصدى الفيلم بجرأة لافتة إلى واحدة من أهم الأساطير الراسخة في معتقدات الشعب اليهودي وثقافته الدينية واللاهوتية، وتتمثل في نفي اليهود على يد الرومان إثر سقوط مدينة القدس، وتدمير المعبد عام 70 ميلادية، وتؤكد المصادر التاريخية المتعددة التي يستخدمها الفيلم من مقابلات مع المؤرخين وعلماء آثار، وبقايا أثرية، بينها معبد وثني ومسرح وجداريات ووجوه بشرية وجدت في قرية تسيبوري (أي صفورية الفلسطينية التي أصبحت مستعمرة إسرائيلية بعد العام 1948) ومسعدة والجليل، وصولا إلى سراديب الموتى في روما. إن هذا المنفى لم يحدث أبدا، وأن الرومان لم يطردوا اليهود ولا سكان الأراضي التي كانوا يحتلونها حينذاك، بدليل، وحسب ما جاء في صحيفة "الحياة"، وما أكده الفيلم "أن اليهود والرومان كانوا في وئام، وأن القرى الفلسطينية كانت غنية بالتنوع والتعدد الإثني، وأن التعامل اليومي مع كل الفئات كان يتسم بالمرونة وبطريقة كانت ربما أكثر تسامحا وعدلا من الحالة الراهنة التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي".
نعم.. هذا ما جاء في التعليق على هذا الفيلم الخارج عن مألوف الدعاية والأساطير الصهيونية، خصوصا من قبل مخرج أميركي يهودي مولود في إسرائيل عام 1950، وشارك في حرب تشرين أول/أوكتوبر من العام 1973، وكان جنديا في الجيش الإسرائيلي، وذكر عن فيلمه "أنه من بدايته إلى نهايته وثائقي سياسي، وحاولت أن أكون فيه مخلصا للحقائق أثناء بحثي في الوثائق التاريخية".
كما يشير التعليق الوارد في صحيفة "الحياة" عن الفيلم "إنه يلقي نظرة على تاريخ إسرائيل التي عمدت ولا تزال إلى تحريف الوقائع والأحداث التاريخية بشكل تعسفي، ويشير على سبيل المثال إلى أن الفلسطينيين الذين طردوا على أيدي الإسرائيليين من قرية صفورية في العام 1948، هم في الواقع من نسل اليهود ممن اعتنقوا الإسلام قبل 1300 سنة، ويكشف الفيلم أيضا أن الفلسطينيين كانوا يمارسون الطقوس اليهودية القديمة التي تعزز مظهر التعايش بين الثقافتين اليهودية والفلسطينية، ويركز الفيلم على مسألة المنفى، حجر الأساس في الثقافة اليهودية، وما تبعها من تحريفات وأساطير، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، في أنها زادت من معاناة الفلسطينيين وأصبحت عقبة أمام السلام في المنطقة".
ما يجدر ذكره هنا بأن عدد سكان بلدة صفورية وأنا أحد أبنائها، حيث عشت في طفولتي بين خرائب الرومة والبلدة بين عامي 44 و45 نحو 4330 نسمة، بينهم نحو 10 من المسيحيين بحسب ما جاء في كتاب (كي لا ننسى). عدا عائلات مسيحية أخرى أسلمت بعد الفتوحات الإسلامية للمنطقة في سنة 634، وما تلا ذلك في أزمات لاحقة ، كما إنه كان يتداول وما زال بأن بعض عائلات البلدة كانت تنتمي للديانة اليهودية، لكنها أسلمت منذ زمن بعيد. كما ويمكن الإشارة وحسب مصادر تاريخية عدة، أنه لم يتم اكتشاف آثار تاريخية في البلدة يمكن الاستدلال بأنها تمت إلى اليهود بصلة. وأغلب الآثار التي وجدت بالقرب من قلعة البلدة تعود إلى الحقبتين الرومانية والبيزنطية، والقلعة ذاتها تعاقب في تجديدها وترميمها شعوب سكنت المنطقة منذ أقدم الأزمان، مرورا بالصليبيين ثم ظاهر العمر الزيداني العربي، وصولا إلى العثمانيين زمن عبد الحميد الثاني.
أخيرا يمكن القول إن أغلب مشاهدي الفيلم كانوا من اليهود المتدينين والعلمانيين بحسب ما جاء في الصحيفة وأن النقاش بعد انتهاء العرض لم "يشيطن" المخرج ولم يتهمه أحد بأنه عميل لجهات أجنبية، وإنه ممول من قبلها، ولم يتهمه أحد بأنه مارق، أو كاره نفسه كيهودي، وإنه سعى عمدا ومن خلال تزوير وتشويه "الحقائق" إلى هدم أسطورة من أهم الأساطير الدينية والسياسية التي تم دمجها في التراث اليهودي، ولم تعل الأصوات في قاعة العرض متهمة المخرج بالكفر، أو تتهجم عليه، ولم يدع أحد إلى محاكمته أو حرقه أو قتله، ولم يجرد أحد سلاحه الناري أو سلاحه الأبيض لذبحه، أو جرحه أو حتى خدشه. ولم يهاجم أحد القاعة التي كان يعرض فيها الفيلم، ولم تجر محاولة لحرق أو تكسير كراسي القاعة؛ أو الاستيلاء على الشريط وحرقه. وتم النقاش وإبداء وجهات النظر المتوافقة أو المتعارضة أو المتناقضة بكل هدوء أو بحدة، لكن باحترام وتسامح، كأن الأمر يتم في جلسة نقاش أكاديمية، مثل القول "إن ما أثاره الفيلم من فضائح تاريخية حول أسطورة العودة الجماعية لليهود، كان يمكن أن تكون باعثا لتوليد الأمل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بدلا من إثارة التوترات والأحداث المأساوية في الشرق الأوسط".
هذا وقد أنهى المخرج إيلان زيف النقاش بالقول "حاولت أن أكون في الفيلم مخلصا للحقائق أثناء بحثي في الوثائق التاريخية" ثم أبدى عتبه على بعض وجهات النظر قائلا: "إن كثرا ينظرون إلى التاريخ بعين غير مجردة وغير موضوعية".

حرره: 
م . ع