محمود درويش والمؤسسة

بقلم: راسم المدهون
-1-
لم يكن من قبيل المبالغة أن قلنا، وقال كثر معنا، قبل خمس سنوات أن غياب محمود درويش كان في جانب منه تعبيراً عن غياب بوصلة ثقافية من العيار الثقيل. محمود درويش كان مثالا غير مسبوق فلسطينياً، ولعلَه سيظل صعب التكرار في المدى القريب على الأقل. فهذا الشاعر كان أيضا أكثر المبدعين والمثقفين الفلسطينيين قدرة على رؤية السياسة بتعقيداتها الكبرى وحتى الصغيرة، ما منحه باستمرار رؤية التخوم والفواصل الدقيقة وغير الواضحة في أغلب الأحيان: كانت السياسة الفلسطينية ولا تزال سياسات متعددة بل ومتناقضة، ما يعني ويفسّر ذهابها في كل مرحلة، وعند كل منعطف مهم، إلى خيارات نهائية لكل طرف.
كيف يمكن للشاعر خصوصاً، والمبدع والمثقف عموماً، أن يحافظ على موقعه السياسي السليم وسط كل التعقيدات، من دون أن يفقد البوصلة، وتحديداً من دون أن يعرف الفوارق الدقيقة بين الإختلاف والتخوين؟
كان درويش صديقا للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ولعلَه في بعض شعره خاطبه كرمز وليس كشخص، ما دفع بكثر من منتقديه لاعتباره "محسوبا" عليه. وكانت تلك الإتهامات تكال في وقت كان فيه الشاعر الراحل لا يتنازل عن اختلافه السياسي مع أبو عمار في الشأن السياسي، بل وعلى نحو فاعل لا أعتقد أن أحدا من المثقفين الفلسطينيين الكبار تمكن من تحقيقه: أبرز محطات الخلاف بين محمود درويش وياسر عرفات كانت في سنوات السبعينات، خلال ما عرف يومها بأزمة مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية. يومها وصل الخلاف حدود القطيعة، التي كانت أبرز تعبيراتها إبعاد درويش ومعه الكاتب الياس خوري عن المركز وعن إدارة تحرير مجلة شؤون فلسطينية. يومها لم يأخذ درويش طريق المثقفين الفلسطينيين "المألوف" في إدارة خلافاتهم السياسية، وأعني هنا تضخيم الخلاف، والخروج منه كخلاف على قضية محددة إلى اعتباره خلافا شاملا يصل حدود العداء.
ما لم يلحظه منتقدو درويش أنه - ومنذ تلك الحادثة - تمكن من الوقوف أمام ياسر عرفات، كند وليس كتابع، كما جرت عادة غيره من المثقفين، الذين اقتربوا من أبو عمار بدرجات متفاوتة في هذه المرحلة أو تلك.
على أن المحطة الأبرز في خلافات محمود درويش مع أبو عمار بل والقيادة الفلسطينية كانت بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو: هنا بالذات يمكن رؤية براعة درويش في إدارة خلافه، فهو رفض علنا وفي أكثر من مرة تلك الإتفاقات، لكنه لم يذهب مع الذاهبين إلى تخوين ياسر عرفات، خلال تلك الموجة العارمة، التي كانت نتائجها المباشرة إحداث انقسامات كبرى في الساحة الوطنية، بكل ما حملته تلك الانقسامات من آثار مدمّرة، لا تزال حتى اليوم.
قد يشير البعض هنا الى خلاف الراحل ادوارد سعيد مع أبو عمار والقيادة الفلسطينية، ولكنه بتقديري خلاف مختلف، إذ كان سعيد وحتى اليوم الأخير من حياته بعيدا عن المؤسسة السياسية الفلسطينية، ولم يكن جزءا منها، بالرغم من وزنه وتأثيره في الثقافة والفكر السياسي.
الشاعر الفلسطيني الأهم والأكثر شعبية في صفوف الفلسطينيين كان لافتا حجم حضوره في الأزمات الكبرى، ولعلَ موقفه من انقلاب حركة حماس على السلطة الفلسطينية في قطاع غزة كان ولا يزال مثالا ساطعا على ما أقول: في مقالته عن الإنقلاب كسر درويش واحدا من أبرز الأوهام الفلسطينية، الذي كان يراه البعض أحد "الثوابت" غير القابلة للنقاش. أعني هنا وهم أن الفلسطينيين لا يقتتلون، وأن الدم الفلسطيني هو الخط الأحمر بين المختلفين والمتصارعين ليستفيقوا على الإقتتال وعلى هدر هذا الدم على أرض فلسطين ذاتها، وليس في مخيمات الشتات.
كان محمود درويش في مقالته عن الإقتتال يتحدث عن "الثوابت" وأهمها العلم والنشيد وبالتأكيد الدم، ولعله بتلك الرموز التي تبدو بسيطة وتقليدية كان يفرز الفوارق ويدرك التخوم ويشير إليها بنصاعة الثقافة وحيوية الأدب، ما جعل موقفه ذاك يلقى صدى واسعا في صفوف الفلسطينيين حتى اليوم.
-2-
أشجار الناس الغائبين
قرأت بفرح غامر قبل أيام رواية الكاتبة الفلسطينية الشابة أحلام بشارات "أشجار الناس الغائبين" والتي صدرت حديثا في رام الله.
هي رواية الحياة الفلسطينية اليوم وليس أمس. أحلام في هذه الرواية الصغيرة بحجمها تقدم ألما عاصفا تعيشه فتاة شابة في مدينتها نابلس إذ لا تجد طريقا للعمل والعيش غير العمل في حمَام. المكان هنا برمزياته كلها ينفتح على عالمين نقيضين، عام الموت حيث غسل الموتى، وعالم الحياة حيث استحمام الأحياء من نساء المدينة، بما في تلك الوظيفة من تعامل يومي مع جسد المرأة بتفاصيله وأسراره.
أجمل ما في رواية "أشجار الناس الغائبين" (منشورات مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي - رام الله - 2013) هو الحلم، وإن شئنا الدقة الفانتازيا، إذ لا تأتي الوقائع السردية من منام، ولكن من حلم شفيف "تعيشه" بطلة الرواية "فلستيا" والتي يشير إسمها في صورة غير مباشرة لاسم فلسطين ذاتها. لا بد للحلم من أدوات الواقع وأحزانه: هنا بالذات تكتب أحلام نشيدا حزينا وإن جامحا وغير مستسلم لعبث الحياة التراجيدية في فلسطين اليوم. على بطلة الرواية أن "تخترع" حبيبها "بيرقدار" برمزية الرجل، وأيضا برمزية إسمه ( حامل البيرق)، وعليها أيضا أن تزج ذاتها في تلك الفانتازيا من دون أن تفقد الخيط الدقيق وغير المرئي الذي يربط الفانتازيا بالواقع.
مهم بالنسبة لي هنا الإشارة للجماليات التصويرية العالية التي كتبت بها هذا الرواية الآسرة. نحن أمام شخصيات من لحم ودم، تعيش عصف الواقع بروح جديدة تعني أن الكاتبة ترى بحدقتين واسعتين مدى التغير في المجتمع الفلسطيني تحت الإحتلال، بخلاف ما يفعله كثر من الروائيين الذين لا يزالون محكومين بثنائية مباشرة عن الشعب والإحتلال، ولا يستطيعون الغوص في شعاب العلاقة الشائكة بين طرفي تلك الثنائية.
ولأننا نتحدث هنا عن رواية نجد الأهم أن نشير الى جاذبية السرد وقدرته على استدراجنا لمتابعة القراءة: نص روائي يأخذنا معه في رحلة تحمل الكثير من ملامح النساء الفلسطينيات اليوم وبالذات الشابات منهن، وهنا تحديدا نرى حرفية عالية تنطلق من وعي اللحظة ومن فهم عميق لماهية الكتابة.
هل أتحدث عن موهبة روائية؟
بالتأكيد أن عملا روائيا أول بهذا المستوى الجمالي يدعوني لذلك، خصوصا وقد نجحت أحلام في تحقيق بنائية روائية متوازنة، وفيها الكثير من حميمية النص الذي يصل ذروته في تلك السطور الختامية حين تنادي صاحبة الحمَام على بطلة الرواية "فلستيا"، فتجيبها الأخيرة بتلك الجملة الباهرة: "حسنا يا أم وليد، أنا قادمة، فقط لديَ حلم طويل أريد أن أكمله".
أحلام بشارات روائية تأتي بقوة الموهبة وحضورها في زمن نفرح فيه بأي عمل روائي جميل يمكن أن يثري حياتنا الأدبية.

حرره: 
م . ع