ناجي العلي سيف وقلم وريشة

بقلم: صقر أبو فخر

لم يُجمع الفلسطينيون، طوال تاريخهم الحديث، على أي شيء تقريباً، إلا على اثنين: محمود درويش وناجي العلي. الأول لأنه حوّل أغاني الحنين اللاهبة إلى ملحمة إنسانية لا تضاهى، والثاني لأنه جعل آلام المنفى رغيفاً يومياً للفلسطينيين اللاجئين. ومع أن ما بين محمود درويش وناجي العلي اشتراكاً وافتراقاً، فإن ما بين ناجي العلي وغسان كنفاني اشتراك أكيد؛ فالبدايات متشابهة والنهايات هي نفسها أيضاً. فقد بدأ غسان كنفاني حياته الإبداعية بالرسم، وهاجر إلى الكويت لتدبير أموره المالية، ثم انعطف إلى الكتابة السياسية والإبداعية. وبدأ ناجي العلي حياته الفنية بالرسم وسافر إلى الحجاز ثم إلى الكويت سعياً وراء لقمة العيش. والاثنان انضما، كل بطريقته، إلى حركة القوميين العرب، والاثنان عملا في تدريس الرسم: غسان في مدارس الأونروا بدمشق، وناجي في المدرسة الجعفرية في صور. وعمل ناجي العلي رساماً في مجلة «الطليعة» الكويتية التي نشرت أولى مقالات غسان كنفاني، والاثنان اغتالتهما إسرائيل.

******

ولد ناجي العلي في قرية الشجرة التي استشهد على ثراها الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، وغادر فلسطين مع عائلته إلى لبنان إبان النكبة في سنة 1948. وفي لبنان درس في إحدى المدارس الخيرية التابعة لاتحاد الكنائس المسيحية، وتركت هذه المدرسة تأثيراً عليه، وعلى رسومه التي كانت تمتلئ بالرموز المسيحية. وفي عين الحلوة راح يرسم على حوائط المخيم رسوماً قاسية تجيش بالغضب والتمرد. وفي سنة 1961 جاء غسان كنفاني إلى عين الحلوة في مناسبة سياسية، وهناك التقى ناجي العلي الذي عرض عليه مجموعة من رسومه، فانتقى غسان أربعة منها ونشرها في مجلة «الحرية» إلى جانب مقالة بعنوان «ينتظر أن نأتي». وهكذا بدأت رحلة ناجي العلي مع الرسم والصحافة.

صقل ناجي تجربته الفنية بالمراس والإصرار العنيد، وتأثر بالمدرسة المصرية التي كانت تفرد مساحة كبيرة في الكاريكاتير للكلام، خلافاً للمدرسة السورية (علي فرزات مثلاً) التي ترى أن الكاريكاتير لا يحتاج إلى الكلام إلا في الحد الأدنى. ومع تطور أدواته التعبيرية ابتدع شخصية «حنظلة» المشهورة. وناقف الحنظل نبات صحراوي يؤذي العين وشديد المرارة، ويدعى «قثاء الحمار»، وقد ورد ذكره في معلقة امرئ القيس. وكانت أكواز هذا الناقف حين تنضج تمتلئ بسائل الحنظل وتنفجر ما إن تمسسها رجل حمار عابر، فتصيب بسائلها عيون المارة، تماماً مثل رسوم ناجي؛ فهي شديدة المرارة، لكنها تدخل من العين إلى النفس مباشرة من دون إيذاء. لكن ناجي جعل رأس حنظلة على هيئة الصبار، أو ربما القنفذ الذي يدافع عن نفسه بشوكه. والصبار أحد رموز الوطن الفلسطيني (علاوة على البئر والزيتون). وكانت الرموز في رسومه كثيرة كالخيمة والفدائي والحجر وأجراس الكنائس والصليب والمسيح وفاطمة ومريم وزينب والأسلاك الشائكة والثياب الممزقة للفقير، وكان يرسم الغني كالفقمة، أي كالرخويات اللزجة التي لا يُعرف لها قوام أو موقف.

******

نشر ناجي العلي رسومه في مجلة «الحرية» أولاً، ثم عمل في مجلة «الطليعة» الكويتية وفي جريدة «السياسة»، لكن شخصيته الفنية تبلورت في جريدة «السفير»، واكتنزت بجمالية مميزة وبأسلوبه الخاص، وصار واحداً من أشهر رسامي الكاريكاتير في العالم العربي، بل أشهر رسام بين أقرانه من الجيل الذي ظهر بعد الرواد المؤسسين. وكان قرّاء «السفير» يبدأون قراءة الجريدة من الصفحة الأخيرة حيث يستقر كاريكاتير ناجي ورفيقه حنظلة. ومع أن حنظلة يبدو كأنه يحني رأسه قليلاً، ويدير ظهره إلى العالم بسخرية مرّة، إلا أن ذلك لم يكن ليعني عدم المبالاة، فناجي العلي كان صلباً كسيف، وثاقباً كرمح، وكان في رسومه قاسياً وساخراً وحاداً كأنه في معركة يومية. ولعل هذه الروح البريئة في زمن الإثم المتمادي هي التي أبقت رسومه نضرة وحارة وراهنة كأنها رسمت الآن، فاستمدت من ذاتها ولذاتها القدرة على التجدد والاستمرار. وكثيراً ما تحولت الرسوم على يدي ناجي من فكرة مرسومة إلى لوحة تشكيلية بالأبيض والأسود، كأنه يتنقل بسلاسة من الرسم Draw إلى التشكيل Painting، وهذا هو سر إبداعه.

******

من المخيم إلى بلاد بلفور

-اسمه الكامل: ناجي سليم حسين العلي؛ ولد في قرية الشجرة في الجليل سنة 1936. وفي هذه القرية أنهى دروسه الابتدائية، وأرغم مع عائلته على اللجوء إلى لبنان بعد سقوطها في 6/5/1948، وأقام الجميع في مخيم عين الحلوة.

-تابع دراسته في لبنان، وحاز دبلوماً في الميكانيك سنة 1957، وسافر إلى بلاد الحجاز للعمل، لكنه لم يلبث أن عاد إلى لبنان في سنة 1959.

-كان، منذ طفولته، يرسم بالفحم على جُدُر المنازل في المخيم، وبالأسود على الأوراق البيض في مدرسته. وأراد، في ما بعد، أن يدرس الرسم في معهد ألكسي بطرس، غير أنه لم يتمكن جراء ملاحقة المكتب الثاني له.

- انضم إلى حركة القوميين العرب، وراح ينشر بعض رسومه في مجلة «الحرية» التي كانت تصدرها الحركة. وفي سنة 1963 سافر إلى الكويت وعمل رساماً في مجلة «الطليعة» التابعة للحركة أيضاً، والتي أسسها أحمد النفيسي سنة 1962، وبقي في الكويت حتى سنة 1968، حين انتقل إلى جريدة «السياسة» بعد إيقاف «الطليعة» عن الصدور.

-انضمّ إلى جريدة «السفير» فور صدورها في سنة 1974، وغادرها في سنة 1976 إلى الكويت ثانية، حيث عمل في جريدة «السياسة» مجدداً حتى سنة 1978، فعاد إلى جريدة «السفير».

- في سنة 1983، بعد الاجتياح الإسرائيلي، غادر لبنان إلى الكويت، وعمل في جريدة «القبس». ولما أبعدته السلطات الكويتية سنة 1985 انتقل إلى لندن، حيث تابع عمله في جريدة «القبس الدولي»، وكان انتخب في سنة 1984 رئيساً لرابطة رسامي الكاريكاتير العرب، وكان علي فرزات نائباً له.

- أُطلقت النار عليه في 22/7/1987، وبقي في الغيبوبة حتى وفاته في 29/8/1987، ودفن في لندن.

في 22/7/1987 اهتز العالم العربي لخبر مؤلم هو إطلاق النار على ناجي العلي بعد خروجه من مقر جريدة «القبس الدولي» في منطقة تشيلسي بلندن. وقد دخل في غيبوبة لم ينج منها، إلى أن توفي في 29/8/1987 ودفن في لندن. وللاغتيال حكاية تروى: ففي سنة 1977 جند الموساد شاباً فلسطينياً يدعى اسماعيل صوان وأرسله إلى بيروت التي عاش فيها ردحاً من الزمن قبل أن ينتقل منها إلى تونس مع قوات المقاومة الفلسطينية في سنة 1982، ثم ما لبث أن سافر إلى باريس، وكانت مهمته تعقب المناضل الفنزويلي كارلوس. وفي سنة 1984 أرسله الموساد إلى لندن لتعقب «عبد الرشيد مصطفى» (وهو اسم مستعار). وقد وصل اسماعيل صوان إلى لندن في شباط 1984، وراح يتردد، مثل أي فلسطيني، على مكتب منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت محطة الموساد آنذاك يديرها آري ريغيف ويعقوب براد ومعهما شخص ثالث يدعى بشار سمارة (وهو اسم مستعار على الأرجح)، وكان بشار سمارة صلة الوصل (أو ضابط الحالة) بين اسماعيل صوان ومحطة الاستخبارات الإسرائيلية.

في لندن تعرف صوان إلى «عبد الرشيد مصطفى»، واستعادا معاً ذكريات بيروت، وأصبحا صديقين. وفي إحدى المرات سمع صوان عبد الرشيد مصطفى يشتم ناجي العلي قائلاً إنه يستحق الموت جراء الرسوم التي ينشرها في «القبس الدولي» ويتعرّض فيها بالنقد اللاذع لياسر عرفات. ونقل صوان ما سمعه فوراً إلى بشار سمارة. وهنا بالذات جاءت الفرصة النادرة للموساد، فاغتال ناجي العلي ليلصق التهمة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبياسر عرفات بالتحديد. وغداة الاغتيال مباشرة جاء مجهول تبين لاحقاً أنه عميل للموساد، وطلب من صوان إخفاء حقيبتين لعبد الرشيد مصطفى فيهما أسلحة وذخائر. وعلى الفور سافر صوان إلى تل أبيب وقابل يعقوب براد وبشار سمارة في فندق شيراتون ـ تل أبيب، وأخبرهما بأمر الحقيبتين، فطلب منه الموساد العودة الفورية إلى لندن، ثم أبلغ المخابرات البريطانية بالأمر. وعندما وصل صوان إلى مطار هيثرو في 4/8/1987 اقتيد إلى التحقيق فوراً. قصارى القول إن الموساد اغتال ناجي العلي على الأرجح، وأبلغ إلى جهاز MI6 أمر الحقيبتين للبرهان أن منظمة التحرير تقوم بعمليات إرهابية في انكلترا. وفي ما بعد كُشف دور الموساد في هذه العملية المخادعة، فطرد آري ريغيف ويعقوب براد وبشار سمارة من بريطانيا وأغلقت محطة الموساد في لندن، وحكم على اسماعيل صوان بالسجن أحد عشر عاماً، ثم أطلق سراحه في سنة 1994 وغادر لندن إلى عمان واختفت آثاره. أما ناجي فبقيت آثاره خالدة، ونال، بعد رحيله في 7/2/1988 «قلم الحرية» المذهّب، وهو أول جائزة يمنحها لعربي الاتحاد الدولي لناشري الصحف.

حرره: 
م . ع