حين تصبح عضوية المجلس التشريعي الفلسطيني مصدراً للدخل الإضافي!

يُمارس 18 في المئة من نواب قطاع غزة الـ48 مهناً أخرى حرّة ويتقاضون دخولاً إضافية في خرقٍ واضح لقانون واجبات وحقوق أعضاء المجلس التشريعي ولنظامه الداخلي الذي يحظر عليهم العمل في أي مهنةٍ أخرى أثناء عضويتهم بالمجلس، وفق ما كشف تحقيق استقصائي استمر ستة شهور.
النواب الذين ينتمون إلى كتلتي التغيير والاصلاح (حماس) وكتلة فتح تعمل غالبيتهم في الطب والتدريس الجامعي.
ما يجمعه النائب من عمله غير القانوني يُضاف إلى ثلاثة آلاف دولار يتقاضاها شهرياً من حكومة الضفة الغربية - في حالة نواب فتح – ومن حكومة غزة في حالة نواب حماس.
وبلغت الموازنة التي أقرتها الحكومة في غزة لعام 2013 (897 مليون دولار) بعجز 654 مليون دولار، تغطّى من المنح والهبات. لكن ما يهمنا هو أن ازدواجية الدخل تضع المخالفين في مصاف أصحاب الدخول العُليا في قطاع ترزح غالبية سكانه تحت خط الفقر.
ويبلغ مجموع ما تقاضاه النائب الواحد في المجلس التشريعي تحت بند المكافأة منذ 2006 وحتى منتصف عام 2013 (267 ألف دولار). أي أن مكافآت النواب مجتمعين خلال هذه الفترة تصل إلى (35 مليوناً و244 ألف دولار).
قانون واجبات وحقوق أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني الرقم (10) لسنة (2004)، وتحديداً المادة (7) منه تنص على ما يأتي: «لا يجوز للعضو تولّي أي أعمال وظيفية أو استشارية لدى أية جهة كانت مقابل أجر».
وللوقوف على تفسير لهذه المادة من قبل رئاسة المجلس تواصلنا مع الدائرة الإعلامية فيه للحديث مع رئيسه بالإنابة د. أحمد بحر، إلا أن طلبنا قوبل بالرفض بحجة عدم وجود وقت لإجراء لقاء صحافي لن تزيد مدته عن عشر دقائق.
لذا، توجهنا إلى النائب عن كتلة التغيير والإصلاح ورئيس لجنة الرقابة وحقوق الإنسان والحريات العامة في غزة يحيى موسى، الذي أوضح أن التفسير الذي اتُفق عليه داخل كتلة حركة حماس البرلمانية «التغيير والإصلاح» أنه لا يصح للنائب العمل بأي عمل له طبيعة وظيفية أو استشارية لدى جهة يتقاضى عليها أجر، وجرى التعميم بذلك.
في عيادة النائب عن كتلة حماس البرلمانية الدكتور خميس النجار، الواقعة أسفل منزله في خان يونس جنوب القطاع، وثّق كاتب التحقيق بالصوت والصورة كيف تقاضـــى الطبيب مقابلاً مادياً 30 (شيقل) ما يعادل (8,3 دولار) فيما كتب «روشيتة دواء» مروّسة باسمه وتخصصه، ومذيّلةً بعنوان ورقم تليفون منزله وعيادته، وموقّعةً منه.
أثناء الانتظار في الصالة، سبقتنا أربع حالات مرضية، كل منها دامت 15 دقيقة. وبالقياس على هذا المعدل من عدد المرضى، فإنه وخلال ساعتين ونصف من دوامه اليومي في العيادة يكون قد فحص حوالى 10 حالات على الأقل، بالتالي فإن مجموع ما يتقاضاه هذا الطبيب - مسؤول الملف الصحي ومقرر لجنة التربية والقضايا الاجتماعية في المجلس - يناهز 300 (شيقل) على مدار الساعتين ونصف ما يعادل (83 دولار). ويجني شهرياً 7800 (شيقل) ما يعادل (2166 دولاراً)، عدا أيام الجمعة.
بعد نحو أربعة أشهر، سأل كاتب التحقيق النائب/ الطبيب تحت القبة عن رأيه في العمل خارج إطار التشريعي. فأجاب: «ممنوع قيام النائب بعمل آخر، فالقانون يمنع العمل بوظيفة أخرى، لكن لنفترض أن جامعة في حاجةٍ إلى زميلٍ ذي تخصص نادر، فهو يستطيع بالتنسيق مع المجلس أن يأخذ ساعة أو ساعتين من دون مقابل. أما إذا كان بمقابل فهذا ممنوع».
لكنه يردف: «من يأتني إلى بيتي لا أطرده. وأنا أتقاضى الثلاثين (شيقل) لأن كثيراً من المرضى يأتونني ولا أتقاضى منهم مقابل، إلا أنهم لا يعودون للمراجعة لأنهم يخجلون، لو كنت أريد إجراء كشفية فلن تقل عن 100 (شيقل)».
أما بخصوص تلقّيه كشفية، يتساءل د. النجار: «أتريد منع الناس من خبرتي النادرة (في أمراض الدم والباطنة)؟».
وجدنا بعد التقصي أن في غزّة أكثر من ثمانية أطباء يعملون بمثل تخصص الدكتور النجار.
توجّه معدّ التحقيق إلى عيادة الدكتور فيصل أبو شهلا النائب عن «كتلة حركة فتح البرلمانية» - البالغ عددها في غزة 16 نائباً - وهو استشاري في الباطنة والكلى وضغط الدم في ميدان الساحة وسط مدينة غزة.
اللافت أن النائب يجاهر في خرقه القانون وافتتاحه عيادته الخاصة وسط غزة، واضعاً لافتات عدة على مداخل البناية والعيادة، في مخالفةٍ لقانون المجلس التشريعي.
دخلت عليه متمارضاً ودفعت (50 شيقل ما يعادل 14 دولاراً) مقابل المعاينة.
ورداً على سؤال عن عدم قانونية مزاولته مهنته أثناء عضويته بالمجلس أجاب أبو شهلا: «القانون لا يمنع الطبيب من ممارسة مهنته وعمله الخاص»، وأوضح أنه يستند في ذلك إلى استشارةٍ قانونية من مدير الدائرة القانونية بالمجلس التشريعي برام الله جمال الخطيب.
الخطيب يؤيّد هذا الرأي وقال لكاتب التحقيق: «الأصل الإباحة، العمل الخاص - من دون أن يتعارض مع عمل النائب بالمجلس التشريعي - لا دخل للمجلس به». ويرى الخطيب في فتواه القانونية أنه لا يوجد نص يفرض على النائب التفرّغ في شكلٍ كامل.
ويضيف: «دساتير بعض الدول الأجنبية تفرض على النائب تفرّغه وتمنع الجمع بين وظيفتين. أما هنا فالجميع ممنوع بين الوظيفة التنفيذية والتشريعية، أما الوظائف الخاصة فلا، والدكتور فيصل لديه عيادة وهو لا يخرق القانون».
ويرى الخطيب أن النص القانوني الذي يقول بعدم جواز تولي النائب أي أعمال وظيفية واستشارية لأي جهةٍ كانت مقابل أجر «ينطبق على الموظف العادي ويُستثنى من ذلك بعض المهن المسموحة» وفق تفسيره «لقانون واجبات وحقوق أعضاء المجلس التشريعي». وبالتالي فإن «مهن المحاماة والطب والتدريس الجامعي مسموحة، ولا يوجد نص لها، وبالتالي الاستثناء يحتاج نصاً محدداً»، وفق قوله.
على أن النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي الدكتور حسن خريشة يرفض هذا التفسير. وهو يأخذ فقط بما ورد في النظام الداخلي للمجلس التشريعي، والذي ينص على أنه «لا يحق للنائب أن يعمل بغير وظيفته، إضافةً إلى عدم أحقيته بتقاضي سوى راتب واحد».
أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح في الضفة الغربية عبدالستار قاسم هو الآخر يرفض كلياً ازدواجية العمل خارج التشريعي. ويطالب قاسم باسترداد ما يتقاضاه النواب من أموال مقابل عملهم في المجلس بصفتها أموالاً للشعب الفلسطيني.
النيابة والأستاذية
في خرقٍ آخر، وقفنا على حقيقة أن «أحمد أبو حلبية» النائب عن كتلة التغيير والإصلاح يعمل أستاذاً في قسم الحديث الشريف بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية بغزة، ومشرفاً ومناقشاً على أبحاث الماجستير في الكلية ذاتها وغيرها من الجامعات الفلسطينية والعربية، وهذا ما أثبتناه من خلال ولوجنا إلى موقع الجامعة الإلكتروني، إذ إن اسمه وعمله مثبّتان داخل صفحة الهيئة التدريسية بالقسم.
ووفق مصدر مطلع على أنشطة أبو حلبية داخل الجامعة - يرفض ذكر اسمه - يناقش هذا الأكاديمي رسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعة، فيما يتقاضى عن كل جلسة مناقشة 70 ديناراً أردنياً، أي ما يعادل (100 دولار أميركي).
عمل الدكتور أبو حلبية في الإشراف على الماجستير ليس مقتصراً على الجامعة الإسلامية في غزة. فقد أقر أثناء لقاء أجريناه معه أنه أشرف على طلاب بالدكتوراه بالبرنامج المشترك بين جامعتي الأقصى الفلسطينية وعين شمس المصرية، إضافةً الى جامعة الجنان اللبنانية.
في الموقع الإلكتروني لعمادة الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية، وقفنا على عدد من الوثائق التي تؤكد عمل مجموعة من النواب، وجميعهم من كتلة حماس البرلمانية «التغيير والإصلاح»، كأعضاء هيئة تدريسية ومشرفين ومناقشين في برامج الماجستير والدكتوراه بالجامعة.
الوثيقة الأولى في عنوان «دليل الدراسات العليا - الطبعة الرابعة عام 2012»، وفيها أن نواب المجلس عن كتلة حماس «أحمد أبو حلبية» و «سالم سلامة» و «خليل الحية» و «يوسف الشرافي» جميعهم من الهيئة التدريسية للماجستير في برنامج الحديث الشريف، وتستعين بهم الجامعة بنظام الساعة وفق الحاجة والضرورة.
النائب الشرافي، نفى أن يكون عضواً في الهيئة التدريسية في برامج الماجستير والدكتوراه في الجامعة الإسلامية، إلا أنه أكد إشرافه على ثلاث أو أربع رسائل ماجستير، مضيفاً: «هذا ليس ممنوعاً على الإطلاق، في المقابل درّست فصلاً مجاناً». معللاً عمله كمناقش لرسائل الماجستير أنه ارتباط بالعلم، وأن الوقت الذي يبذله في ذلك هو بعد صلاة الفجر، وهو ليس وقت العمل في المجلس التشريعي.
وحول مدى قانونية تقاضيه الأموال مقابل مناقشاته يقول: «القانون لا يقيّد هذه الأمور، فالتشريعي يقيّدك بالالتزام بالجلسات، وأنت مقيّد بأن تحضر كحد أدنى، ومع ذلك فإننا نحضر 100 في المئة من جلسات التشريعي".
حاولنا التواصل مع النواب الآخرين، لإعطائهم حق الرد، إلا أن جهودنا باءت بالفشل...
أما قائمة الهيئة التدريسية لبرنامج التفسير وعلوم القرآن فقد احتوت على النائبين من كتلة «التغيير والإصلاح» أيضاً «عبدالرحمن الجمل» و «مروان أبو راس»، وتستعين بهما كذلك الجامعة بنظام الساعة وفق الحاجة والضرورة.
النائب أبو راس نفى أنه ضمن الهيئة التدريسية بالجامعة الإسلامية، على عكس ما أثبتته الوثائق، وأفاد أيضاً بأنه ناقش عدداً من الرسائل إلا إنه لم يتقاضَ أي مقابل عليها. ولم نستطع إثبات عكس ما أفاد به النائب أبو راس.
الوثيقة الثانية داخل الموقع في عنوان «دليل الدراسات العليا 2010 - 2011» وتحتوي على رسائل الماجستير التي أُنجزت حتى عام 2011 وأشرف عليها وناقش عدداً منها بعضُ النواب. تشير الوثيقة إلى أن، النائب الدكتور «سالم سلامة» كان مناقشاً خارجياً لثلاث رسائل ماجستير خلال عامي 2010 و2011.
رئيس لجنة الرقابة وحقوق الإنسان والحريات العامة في غزة يحيى موسى قال: «بحـــثت كتلة «التغـــيير والإصلاح» موضوع العمل، وتم الاتفاق على أن أي ساعات لا تزيد عن ثلاث يتم إعطاؤها في أي جامعة أن تكون تطوعاً من دون أجر. والعمل التطوعي ألزمت فيه الكتلة جميع أعضائها، وهذا التعميم كان منذ أكثر من عامين".
وعلى رغم أن ولاية المجلس التشريعي بدأت منتصف عام 2006، أي قبل نحو سبع سنوات، فإن موسى يعتبر السنوات الخمس الأولى هي بدايات. لذلك، تمت مناقشة ازدواجية العمل لدى بعض النواب قبل حوالى عامين فقط على رغم ثبوتها لديهم واختراق بعضهم القانون، وفق قوله.
ويوضح النائب موسى أن تقاضي أجر مادي مقابل خدمات يقدّمها النائب هو إساءة للمجلس، ويضع النائب في شبهات، مفضّلاً عدم العمل فيها أو تقاضي المال مقابلها، ومن بين تلك الخدمات التي يمكن أن يقدمها النائب للمواطنين، إن توافرت لديه، والتي يُمنع تقاضي مقابل عليها، هي مهنة الطب.
تنص المادة الثالثة من قانون المجلس التشريعي، على القسم الذي يؤديه النواب أمام المجلس قبل شروعهم بالأعمال: «أُقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن وأن أحافظ على حقوق ومصالح الشعب والأمة وأن أحترم القانون الأساسي، وأن أقوم بواجباتي حق القيام، والله على ما أقول شهيد».
رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، الدكتور عزيز دويك، يوضح أن من يمارس ازدواجية العمل مخالف لبنود النظام الداخلي لعمل أعضاء المجلس التشريعي، ومن ثم يمكن مكتب هيئة الرئاسة في هذه الحالة من خلال د. أحمد بحر نائب رئيس المجلس الذي يقوم في غزة بمهام رئيس المجلس، أن ينذره ومن ثم تقع عليه العقوبة إن استمر.
ممنوع... لكن!
ولأن محاولاتنا للتواصل مع الدكتور بحر باءت جميعها بالفشل، قابلنا رئيس لجنة الرقابة وحقوق الإنسان والحريّات العامة النائب يحيى موسى، الذي يقول: «لا يوجد في القانون واللوائح تفصيلات في عقوبة النواب الذين يعملون خارج إطار التشريعي، فالنصوص عامة ومبهمة».
ويوضح موسى: «عندما وصل إلينا أن أحد النواب يمارس عملاً يمكن أن يعوّق عمل المجلس أو يمثّل خللاً فيه أو يسيء إليه، فالمجلس له إجراءات مثل تنبيه هذا النائب ولفت انتباهه ومراجعته. أما العقوبات فليس لها نص محدد وواضح بمعنى: لا يوجد في القانون عقوبة لذلك، لكن هذا يأتي في شكل أدبي ومن خلال الاتصال والمراجعة».
على رغم بعض الشكاوى التي وصلت المجلس إلا أنه لم يقم بأية إجراءات من شأنها أن تمنع النواب من الاستمرار بمخالفاتهم.
للنائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي د. حسن خريشة رأي آخر عن الإجراءات التي يمكن أن تتخذ بحق النائب المزدوج العمل. إذ يقول: «من يضع عقوبته هو المحكمة الدستورية، ومن ثم بإمكان أي أحد التقدم بالشكوى للنائب العام الذي بدوره يحيل إلى المجلس التشريعي المطالبة برفع الحصانة عن النائب، والمجلس بدوره يتخذ القرار بثلثي أعضائه، ومن ثم يُحوّل إلى المحكمة التي تقرر أن هذا منافٍ للقانون، وتقوم باتخاذ الإجراءات ضده ما بين الفصل والحبس لأنه فاقد الحصانة، إضافةً إلى أنه بالإمكان التقدّم بشكوى إلى مؤسسة الكسب غير المشروع ومحاربة الفساد، لأن ما قام به النائب هو شكل من أشكال الفساد".
ممارسة نواب التشريعي أعمالاً ومهناً أثناء فترة عضويتهم يفتح الباب على مسألة أخرى ذات علاقة بدخل النواب وما يتقاضونه من الحكومة مقابل عضويتهم. فمن المعروف أن المجلس معطّل بالأساس، فلماذا يستمرون أصلاً بتقاضي رواتبهم وهم لا يمارسون دورهم في التشريع والرقابة؟
يقول المستشار القانوني ومدير الدراسات في مركز الميزان لحقوق الإنسان الدكتور عدنان الحجار: «مطلوب منهم أن يؤدوا عملاً مقابل الأموال الضخمة التي يأخذونها من قوت المواطنين، بالتالي تجب إعادة النظر في هذه المخصصات".