«الإخوان المسلمون» بين الاندماج والمشاركة

ثمة سؤال مهم يُطرح أمامنا ونحن ننظر في السلوك السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»: لماذا لم تستطع الجماعة أن تندمج في العملية السياسية، بل في المجتمع، طيلة هذا التاريخ الذي شارف على خمسة وثمانين عاماً؟ لقد ظلوا في صراع مع السلطات من دون قدرة على الاندماج والمشاركة الإيجابية، كما تصادموا مع فئات كثيرة من المجتمع بمجرد وصولهم للحكم وإدارتهم الأمور على طريقتهم الخاصة، الأمر الذي أدى إلى هذا السقوط السريع بعد أن توافر لهم ظرف تاريخي قد لا يتكرر. ويبدو أننا في حاجة إلى النظر في رؤيتهم للعالم وأساليبهم في العمل، فهذه الرؤية وتلك الأساليب تعتمد على «منوال قديم» في التفكير لا يتناسب مع روح العصر، ومع نزعة التقدم والحداثة التي تنشدها المجتمعات المعاصرة. ولا أقصد بالغزل على المنوال القديم التمسك بأهداب الدين في العمل السياسي. إن ذلك يمكن أن يتم بمنوال حديث يدعو إليه الدين نفسه عندما ينهي أتباعه عن الميل إلى التقليد واجترار القديم. إن الدين ليس هو العامل المهم والحاسم هنا.

نشأت الحركة الإخوانية كحركة دينية كان جل اهتمامها ينصب على الدعوة، ولكن مع تقدم التاريخ سبقت السياسة الدعوة، وتحولت الحركة إلى حركة سياسية تستظل بالدين. فعندما نقول إن الحركة تنسج على «منوال فكري قديم»، فإننا نتجه صوب رؤيتها للعالم وممارستها وفكرها السياسي.

لنتأمل أولاً فكرة «الإخوان». إن هذه الفكرة تعكس رؤية ضيقة للعالم تتنافى مع فكرة «الجماعة الوطنية»، أو فكرة «المواطنة»، فالفكرة في جوهرها فكرة انقسامية، تجعل المسلمين يصنفون إلى صنفين: الإخوان، وَمَن عداهم. وقد يكون الأمر طبيعياً لو أن الكلمة انصرفت إلى تجمع عادي، ولكن الممارسة السياسية واليومية تؤكد أن ثمة تمييزاً واضحاً بين الإخواني وغير الإخواني، وأن مستويات الثقة في التفاعلات وكذلك مستوى الشفافية والصدقية، تختلف عندما يكون التفاعل إخوانياً أو غير إخواني. ومن المعروف أن المفهوم الاجتماعي للمواطنة وللمجتمع يتأسس على ضرب من الثقة العامة التي تؤسس لنظام اجتماعي متماسك.

حقيقة، أن الولاءات الضيقة لا يمكن تجاهلها طالما أنها ولاءات فطرية تلقائية لا تقوم على تخطيط وأهداف، ولكن تظل الولاءات الأكبر ذات الطابع العام هي الأهم والأبقى، فهي التي تكون النظام الاجتماعي العام، وهي التي تولد الثقة العامة، والتي ينظر إليها بوصفها الوقود الذي يجعل الجماعات كافة تتشابك وتبحث عن أهداف مشتركة. إن تأكيد الولاءات الضيقة في العمل السياسي لا يُغيّب الرؤية الكلية والثقة العامة فحسب، بل يضع أيضاً حدوداً على إدراك «العام» بمستوياته كافة: المصلحة العامة، الضمير العام الجمعي، الروح العامة، الإرداة العامة، المصير العام، التاريخ العام، الهوية العامة... إلخ. ومن المعروف أن «العام» يستعصي على أن يخضع «للخاص» أو الجزئي، وإذا ما حاول الخاص- الجزئي أن يُخضع العام – الكلي، فإن هذا الأخير لا يخضع إلا بشرٍّ كثير.

وإذا كان التحصن خلف مفهوم الإخوان يضيق الرؤية إلى ما دون المجتمع ودون الدولة الوطنية، فإن طرح مفهوم الخلافة يخلق مشكلة أخرى. إنه يجعل الشخص الذي ينتمي للجماعة يقفز من الانتماء الضيق للجماعة إلى تصور يوتوبي لما بعد الوطن، فيذهب الوطن – الدولة الوطنية إلى الجحيم (وقد نذكّر هنا بالوصف الذي ذكره أحد كبار قادة الجماعة لبلد كمصر). إن تجاوز الدولة الوطنية يخلق معضلة من نوع جديد: ما هي الوحدة السياسية الإقليمية التي يعيش في كنفها المجتمع؟ أليست هي الدولة الوطنية؟ وإذا لم تكن لهذه الوحدة الإقليمية فائدة فلماذا السعي إلى حكمها؟ لقد ارتضى النظام العالمي المعاصر فكرة الدولة الوطنية بعد أن ذابت الإمبراطوريات وأصبحت نظاماً بالياً لا يتناسب مع العصر. فكيف يمكن تجاوز الدولة الوطنية الذي يعيش التنظيم في كنفها إلى يوتوبيا يصعب تحقيقها أصلاً.

وهل يعتبر تناقضاً الرضا بالعيش داخل هذا النظام وسبك تحالفات إستراتيجية مع قوى سياسية، بما فيها القوى الحاكمة في بعض الأحيان، بل والرضا بالحكم فيه، وبين محاولة تجاوزه ونفيه.

إن هذا الوضع يخلق معضلة أخرى تتعلق بعدم القدرة على إدارة الدولة الوطنية وعلى تطوير أطر عامة لحشد الجماعات المختلفة فيها على أهداف واحدة، فهذه الدولة ليست حاضرة في الفكر الذي يحصر نفسه برؤية ضيقة تحت الدولة الوطنية، أو في يوتوبيا فضفاضة فوقها. تضيع هنا الفكرة الوطنية في مساعي البحث عن الأهل والعشيرة من ناحية والبحث عن خلافة مستحيلة التحقيق من ناحية أخرى.

وثمة معضلة ثالثة ترتبط بطبيعة التنشئة السياسية لأعضاء الجماعة وبناء هذه العملية على الطاعة العمياء وعلى مستويات متدرجة من الولاء والثقة. ولن أناقش هنا التعارض بين هذا النمط من التنشئة وبين نمط التنشئة الديموقراطية القائم على غرس قيم التعددية والتسامح والاختيار الحر وغير ذلك من القيم الحديثة، ولكن سأشير إلى ما يمكن أن ينتجه هذا النمط من التنشئة من ذوات غير قادرة على أن ترى إلا حدود الجماعة وقادتها، بل حدود القادة المباشرين الذين يصدرون لهم الأوامر، وغير قادرة على الفعل أو المبادأة أو الاختيار. ومن ناحية أخرى كيف يسمح القادة لأنفسهم -وبعضهم ممن حصل على شهادات عالية جداً وخبر العيش في مجتمعات ديموقراطية جداً- أن يسلبوا الأفراد حرياتهم وأن يمحوا الذوات الفردية محواً.

وأحسب أن هذا النمط من التنشئة يضع قيوداً على قدرة الجماعة على الفعل داخل ما يسمى بـ «المجال العام»: المجال الحر للنقاش والتفاوض والتدبر العقلي من أجل الصالح العام. إن المجال العام سينتفي أو يتعطل تماماً أمام هذا النمط من التنشئة، فالجماعة هنا لن تكون قادرة على العمل فيه إلا باحتكاره والسيطرة عليه، وهذا أمر يصعب تحقيقه في المجتمع الحديث.

إن العمل السياسي في المجتمع الحديث، وفي كنف الدولة الوطنية الحديثة، يحتاج إلى منوال حديث يغير كل هذه الأفكار وغيرها، وينسج نسجاً حديثاً يبدأ من الإيمان المطلق بفكرة المواطنة، ويوجه ممارساته السياسية نحو النهوض بالمجتمع في كنف الدولة الوطنية، ويؤسس علاقاته على مبادئ الثقة العامة التي لا تميز بشراً عن بشر، ويمنح الأفراد حرية الاختيار والتعبير عن إرادتهم الحرة في مجال عام حر وطليق. وإذا لم تتوافر هذه الشروط يتحول العمل السياسي إلى عمل معضل لا تفارقه الأزمة، ويصعب الاندماج والمشاركة.

بقلم: احمد زايد

حرره: 
ع.ن