مَن يُعقلن الإخوان؟

بقلم: هاني درويش

اثنا عشر قتيلاً أمام مكتب جماعة الإرشاد في المقطم. ثمن غال لهدف أغلى، بالنسبة إلى من يمكن تسميتهم بـ"تنظيم الانتقام من قلعة الإرشاد"، وهي تسمية متخيلة لجماعة من المحتجين، كان لا بد لها أن تترك مسيرات الاستعراض المليونية في 30 يونيو، وتذهب إلى هدفها الذي عزّ بلوغه خلال نوبات ثورية ثلاث سابقة. تنظيم يضم مصابين ومحكوم عليهم إثر صدامات سابقة، لا تعنيهم سوى رمزية اقتحام القلعة قبيحة المعمار، وإعلاء العلم المصري فوقها بدلاً من أخضر "أعدّوا" ذي السيفين الشهيرين.

 بالطبع لا يمكن اختصار ما حدث، في مذبحة المقطم. فالملايين التي أبهرت العالم بأضعاف من خرجوا لتنحية حسني مبارك، قبل عامين، كانوا يحتفلون في ساحة محررة، للمرة الأولى، من معالم تسلط الدولة، والشرطة والجيش وبلطجية الحزب الوطني. لقد تعرت دولة الاخوان، إلا من عصابة عصابية مكونة من آلاف يستعرضون الخوذات والعصي المستحضرة من زمن الإكسسوار السينمائي، أو هي عصابة حضرت في ليل المقطم، على متن أوتوبيس مسلح، لتغطية خروج قناصتها مهزومين من أعلى بناية مقر الإرشاد. الجماعة تعود إلى حجمها كطائفة  تجتمع على قلب رجل واحد اسمه محمد مرسي. يخرج أعضاؤها كالضباع ليلاً، ليهاجموا بالرشاشات الآلية بقايا المتظاهرين السلميين في المحافظات، أو ليقتلوا مواطنة اسكندرية في شرفة منزلها بفعل الغشم.

المدهش هو احتفاء العالم بسلمية الحشود الغفيرة مع التعامي عن عنف الإخوان. يكاد العالم يقايض السلمية المفترضة حتى الآن، من قبل الملايين، بالعنف الأعمى والعلني الذي سجلته فيديوهات لسلوك الميليشيا الإخوانية. وتصوير ما يحدث على أنه انقسام بين كتلتين، هو نوع من العهر الإعلامي اقترفته صحف أجنبية بدعوى الحياد. أين الحياد من معيار الوزن النسبي للقوى؟ ألم يكن حجم الحشود، أمس، قياسياً، بشكل يدفعنا إلى مراجعة "تابو" الصناديق التي انغلقت عليها عقول تقديس الشرعية؟ قد يرد قائل بأن الإسلاميين في مصر لم يظهروا حشدهم بالقدر الكافي حتى تستقيم المقارنة. لكن الرد سيكون هذه المرة مفحماً: عندما يخرج عشرون مليون شخص – على الأقل – فتنقسم الشاشات العمياء بين ملايين، وبضعة آلاف، فإن عقلانية الصندوق تلك لا بد أولاً أن تشككنا في صدقية وعدم تزوير انتخابات تأسيس المشروعية، أو تدفعنا ثانياً إلى عقلنة الطلب البسيط بانتخابات مبكرة، على ما تطرح تنسيقية ٣٠ يونيو وجبهة الانقاذ. لماذا يحاول العالم تثبيت مشهد مشكوك في صحته (بشهادة مؤسسات الرقابة الانتخابية الدولية)، حدث قبل عام، والتغاضي عن حقيقة ما حدث أمس؟

لا تطلب جبهة الانقاذ أو تنسيقية ٣٠ يونيو المستحيل. يقايضان صبر "السلمية" بدرجاتها (إضراب عام، فعصيان مدني،...) بالتراجع المنطقي الوحيد عن مسار الفشل الإخواني: تحديد موعد لانتخابات رئاسية مبكرة، كتابة دستور جديد، وحكومة تكنوقراط وطنية للإنقاذ. والمطالب الثلاثة لا تعيد مصر إلى نقطة الصفر، كما يتخيل البعض. هي فقط تعدل مسار فشل دولة كاملة، تبدو الآن حبيسة كرة صوف، تزداد ضخامة جرائمها كلما حاولت علاج العقدة بمزيد من التعقيد.

الإجماع على الفشل الإداري لتجربة الإسلام السياسي، والتي جمعت الثوري بابن النظام السابق، بالمواطن العادي الذي يجرب احتفال السياسة للمرة الأولى، لا يعني سياسياً دفن تجربة الإخوان وحدهم. بل تؤشر إلى ما يخشاه الجميع، وهو عدم ملل الجماهير من السياسة كلعبة مصالح نخبوية ضيقة. السياسة التي أخرجت الملايين أمس، لم تعد كتاباً لسحرة فرعون، إنها استعراض مصالح لفئات واسعة، لم يصب حكم الإخوان، ولو من طريق الصدفة، أياً منها. فهم منذ اليوم الأول عبارة عن مقاولين لهدم الدولة، لبيعها باباً وشباكاً. إنهم مشروع الإجهاز، ليس على الدولة العصرية، بل على مفهوم الدولة الخام.

تري أين سيختبئ قتلة شباب مساكن الزلزال الشعبية في المقطم؟ أين يجلس أحمد المغير، نموذج السفاهة الشبابية الإخوانية، بعدما توعد من يقترب من مكتب إرشاده؟ لا شك في أنه، كرئيسه، يبحث عن مناطق الأمان التي تتقلص تحت قدميه. فكل قتيل عابر منذ عام، سقط على يدي أخواني أو سلفي. هذا النهر الجارف من الدماء، بلا انتقام أو عدالة، برّره الوعي الثوري طويلاً، حين سفكته مؤسسات تنظيم العنف (الشرطة). الآن، يبدو أن الحساب سيطول مع عصابة لا فكاك منها (إذا لم تختر قيادتها اللجوء السياسي). عصابة تتسلح وتنتظم خارج شرعية صناديقها المقدسة. وأي عقل – لا شك في وجوده بينهم – يؤمن بمستقبل هذه الجماعات، لا بد أن يتخيل مخرجاً آخر ينقذ عبره جماعته مستقبلاً. ينقذها من مصير حرب أهلية فعلية ضد الإسلام والإسلاميين. فأي مخرج آخر غير آمن. أي مخرج لا تتواضع فيه مقدرات هذه الجماعة، سيحول أعضاءها، خلال عام آخر، إلى بقايا نازية مطاردة في مشارق مصر ومغاربها. سيحاول، حتى المصريين التقليديين، إنقاذ إيمانهم بالدين، بالتضحية بالمتأسلمين أنفسهم. وبدلاً من الشك في الدين، سيكون إنقاذ الدين نفسه من تجاره مقايضة منطقية.

أكثر ما يقرف في خطاب عفن، يشيع أنه لا بديل لـ"الإخوان"، أنه يضمر احتقاراً عنصرياً للشعب المصري. احتقار مفاده أن: "ها أنتم قد خرجتم ولهَوتم واستعرضتم، لكنكم في الحقيقة بلد متدين ومتخلف، ولا يصلح معكم سوى الاستسلام لمصيركم، الإخوان هم القوى الوحيدة الممثلة للمديوكر المصري، هل تصدقون أنكم أبهرتمونا؟ لقد مرّت السَّكرة وأتت الفكرة، الفكرة لا تخرج من كاتالوغكم القديم... أنتم تحتاجون ديكتاتوراً".

وكأن المطروح خارج "الإخوان" فراغ أوسع من فراغهم. كأن الألوية الحمراء ستنتهز الفرصة للانقضاض على الدولة الكبيرة. كأن ديموقراطية حقيقية وتكنوقراطية مناسبة، في فترة انتقالية، محددة الهدف، فكرة لا نستحقها. كأن محمد البرادعي، أو حمدين صباحي أو خالد علي، سيخطفون البلاد... سيداتي آنساتي سادتي: لا تقلقوا، مصر تحتاج ٤٠ عاماً للانكفاء على نفسها في سلام كي تعود دولة عادية. فلا تستكثروا علينا هدنة خارج ملاعبكم، في واشنطن أو الخليج أو إيران. صدقونا، لقد تعبنا بالفعل، وما عدنا نصلح لقميص أوهامكم عن مكانتنا. نحن نستحق الحياة فقط.

حرره: 
م . ع