تظاهرات 30 حزيران ... أوراق اللعبة والضحايا

القاهرة ـ كرم سعيد

364 يوماً مرت على حكم جماعة «الإخوان المسلمين» مصر برئاسة محمد مرسي، الذي راهنت عليه قوى الإسلام السياسي وانجذبت إليه قوى المعارضة -سواء كانت حزبية أو شبابية- مغلوبة على أمرها، بعد أن شاركه أحمد شفيق جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية.

ولذلك، فإن قسماً كبيراً من الأصوات التي حازها الرئيس مرسي أتته صاغرة، لعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل، بعدما خرج مرشحو الثورة ومن كان لهم رصيد شعبي قديم من الجولة الأولى. غير أن مرسي سعى منذ أيامه الأولى إلى إعادة تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحات جماعته السياسية، عبر إقصاء معارضيه وتشويههم أحياناً، ناهيك عن تعيين هيئة استشارية ديكورية أفرغها من مضمونها قبل أن يزيحها بعيداً من شرفة قصره الوثير، حين اختلفت معه حول الإعلان الدستوري الصادر في 30 حزيران (يونيو) 2012.

تجلت معضلة الرئيس في عامه الأول حين سخّر سلطاته وصلاحياته الرئاسية للهيمنة المطلقة على مفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها، فتم تسكين رجالات العشيرة وأهل الثقة في المواقع القيادية، واحتلوا جزءاً كبيراً من التشكيلة الحكومية الأولى والثانية بقيادة رجل مصر الضعيف هشام قنديل، وكان بارزاً هنا تعيين محافظ الأقصر (المدينة السياحية) من بين قيادات حزب «البناء والتنمية»، الذراع السياسية لـ «الجماعة الإسلامية». صحيح أن المحافظ ليس موضع شبهة أو محل تشكيك، سواء في نزاهته أو مهنيته، إلا أن «الجماعة الإسلامية» التي ينتمي إليها مازالت صورتها النمطية سلبية في الوعي الجمعي المحلي والعالمي في إطار تسديد الفواتير الانتخابية.

والأرجح أن جماعة «الإخوان» التي تمسك بمفاصل الدولة وعصبها الحساس فشلت في إدارة المشهد حين تعجلت الثمرة وتعاملت بحذر وتوتر مع ملفات المرحلة الانتقالية، رغم حساسيتها وتعقدها، وبدا ذلك في الصدام مع المؤسسة القضائية والأجهزة الإعلامية واتهامها بالفساد ومحاولات العبث بمكتسبات الثورة. لكن الحق أن المعارضة المصرية التي تبدو مفككة وتفتقر إلى وحدة الرؤية والهدف، لعبت دوراً في تغيير طباع الجماعة ورئيسها، وعززت قبضتها على مؤسسات الدولة، حين تفتت في مواجهة أخطاء النظام وكوارثه أولاً، ثم الوقوف بالمرصاد لكل المشاريع التي طرحها النظام، سواء كانت تتعلق بالإصلاح السياسي أو الاقتصادي وحتى المجتمعي، سواء من طريق القضاء أو عبر الإعلام الفضائي والآليات التكنولوجية الحديثة، لا لشيء وإنما كي لا تحسب لمصلحته وجماعته.

وواقع الأمر أن الاندفاع الجارف نحو 30 حزيران (يونيو) رسخه الانقسام المجتمعي الذي صنعه نظام الرئيس مرسي ومعارضوه معاً، حين غلبوا البنية الفوقية التي تتعلق بالأيديولوجيا ونسق القيم والأفكار على البنية التحتية التي ترتبط بالآثار الاقتصادية والاجتماعية المباشرة، ويتصل بذلك التصريحات الرسمية الخشنة التي يطلقها الطرفان طول الوقت، وآخرها تلميحات رئيس الدولة في خطابه مساء الأربعاء الماضي، وإلقاؤه باللوم على المعارضة وبعض وسائل الإعلام الخاصة والقضاء ورجال أعمال ذكر أسماءهم صراحة.

ولم تكن اللغة التي عمقت الاستقطاب المجتمعي، وربما ساهمت في عمليات التعبئة والحشد لـ 30 حزيران (يونيو)، مقصورة على نخب الحكم، وإنما طاولت الجميع، ومن ذلك إعلان وجدي غنيم أحد رموز تيار الإسلام السياسي، أن من يخرج لتظاهرات الغد يكون «كافراً»، في مقابل تصريحات عنترية وغير مسؤولة لعناصر المعارضة مثل جورج إسحاق وحازم عبد العظيم، اللذين أعلنا قبل أيام أن يوم غد هو الفصل الأخير في وجود «الإسلام السياسي».

ولذلك، فإن العبث مازال يطاول البلاد، التي باتت معرضة لأكبر عملية تحرش في تاريخها المعاصر من فلول ومغرضين لا يدركون قيمة ولا معنى للدولة، ولكنهم يعرفون ما يريدون، ومن معارضة يبدو أنها تكافح لعرقلة مسار ديموقراطي، وكذلك نظام سياسي يبذل الغالي والنفيس حفاظاً على صدارة المشهد من دون الأخذ في الاعتبار المصالح العليا للبلاد.

ما سبق هو ما دفع وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي قبل أيام للدعوة، في بيان أحدث جدلاً في الساحة السياسية، إلى ضرورة إنهاء حال الاستقطاب ومعالجة الخلافات بين الفرقاء السياسيين، لمنع انزلاق البلاد إلى اقتتال أهلي. لكن ليس متوقعاً استبدال العناوين الخلافية التي تتصدر الحلبة، فالمناخ دخل مرحلة الشحن، والوضع السياسي المعقد وصل ذروته، ومن يتابع الوضع السياسي والأمني في مصر يدرك أن الأمور تزداد سوءاً، فالاحتجاجات على أشدها، والتراشق السياسي أصبح اللغة الأبرز.

والأرجح أن خطاب الرئيس مرسي الذي جاء استباقاً لتظاهرات الغد، لم يحرك ساكناً، وإن حاز تعاطف قطاعات شعبية واسعة، خصوصاً في أوساط الإسلاميين.

صحيح أن الخطاب تطرق إلى التحديات التي تواجه البلاد، خصوصاً الاقتصادية، والأيادي التي تعمل بليل أو من وراء ستار لعرقلة المسار الديموقراطي، وكذلك اعترف صراحة بأن ثمة أخطاء لمؤسسة الرئاسة، وهي شجاعة متأخرة، إلا أنه لم يتطرق إلى جوهر الأزمة، إذ جاء في غالبيته فضفاضاً، يسرح في خيال ولا يرتطم بالواقع إلا قليلاً، كما أنه لم يقدم توصيفاً لهذه الأخطاء، ولا آليات تصحيح هذا الاعوجاج. وهو أقرب إلى رسائل غمز ووعيد، وليس حديث مصارحة ومكاشفة، كما سماه ، بل إسهاب ممل في عرض إنجازاته ووجهات نظره.

وعلى رغم أنه كان متوقعاً أن تنهي كلمة الرئيس مرسي حال التوتر في الداخل والتأسيس لتفاهمات جديدة بين النظام ومعارضيه، وكذلك معالجات التشوهات التي ألمت بالصورة المصرية في الذهنية الدولية، إلا أن أزمة الداخل ظلت تراوح مكانها، كما ظل الحذر والترقب هو العنوان الأبرز في العلاقة مع الخارج.

تأسيساً على ما سبق، فإن الجمود سيبقى سيد الموقف، والقراءة المحايدة والرصد الأمين لأوجاع هذا البلد، تكشف أن مصر سارت في الشهور القليلة الماضية في طريق متعرج لم تحدد ملامحه بوضوح، فسياسة الرئيس محمد مرسي إما أنها أحياناً تجافي الواقع، وإما أنها ارتطمت في أحيان كثيرة بمعارضة لا تطيق الآخر، بل تشكك في كل ما يتعارض وأيديولوجيتها.

لذلك ستبقى أوراق اللعبة في مصر بيد نظام الحكم الذي يبدو أنه لم يفهم مغزى رسالة مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» حسن البنا التي جاء فيها «إن الطريق قد تكون طويلة، لكن ليس هناك غيرها، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقطف ثمرة قبل أوانها، فمن الخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات». وتلك الأوراق هي أيضاً في يد معارضة بعضها حسن النية تجاه مصر، ومعظمها إما يخاصم وتوجهاته المنطق والواقع، أو يسعى إلى عرقلة مسيرة الثورة وتقويض مؤسسات الدولة لاستعادة ملامح النظام القديم. وبين هؤلاء «المتجردين» وأولئك «المتمردين»، تقف غالبية المصريين ضحايا لا حول لهم ولا قوة.

 

 

الحياة