الشبكات الاجتماعيّة تفضح «الأخ الأمريكي الأكبر»

بقلم: أحمد مغربي
 
هزّت فضيحة برنامج التجسس الإلكتروني «بريزم» PRISM عوالم السياسة والمعلوماتية والشبكات والثقافة والحريّات في القرن الـ21، وهو برنامج استعملته «وكالة الأمن القومي» National Security Agency الأميركية، لفرض رقابة إلكترونية واسعة على الشبكات الاجتماعية والبريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية للجمهور ضمن فضيحة داوية ربما أصبحت معلماً رئيساً في الصورة عن تاريخ حقبة الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، على غرار القول إن فضيحة «ووترغيت» Watergate ألصقت نفسها بصورة عصر الرئيس الأميركي الجمهوري ريتشارد نيكسون ومستشاره الأسطوري هنري كيسنجر.

تضمّنت فضيحة «ووترغيت» تنصّتاً إلكترونياً بسمّاعات متطوّرة للصوت، أُجيز بأمر رئاسي (دافع عنه نيكسون كثيراً لاحقاً بإخفاق هائل)، استهدف اجتماعات للحزب الديموقراطي. لم يكن هناك إرهاب، لكن كانت هناك فيتنام وحربها المستنزفة للداخل الأميركي. لم يكن هناك إرهاب يهدد بطائرات تخترق أمان الناس في أبراج نيويورك، لكن كانت طائرات القصف الاستراتيجي «بي 52» تنثر سجّادات القنابل في سماء فيتنام، في حرب كانت تغرق في مستنقعات المستحيل، ضمن الصراع الهائل لأحد الفصول الأكثر قسوة في الحرب الباردة التي سيطرت على النصف الثاني من القرن الماضي.

ظهر في أميركا تيار واسع رأى أنها حرب لم تعد تخدم الشعب الأميركي، وأنه يجب الخروج من مستنقعات الرز الفيتنامي المفخّخة بمقاتلي الـ «فيتكونغ» المدعومين من المعسكر المعادي لأميركا. وُضِعَت مصالح الإمبراطورية الأميركية على محكٍّ صعب. جاءت استجابة سلطة نيكسون - كيسنجر على هذا التحدي قاصرة ومتناقضة، بل إنها استخدمت التسلّط العاري إلى حدّ الانكشاف، إذ قرّرت إدارة البيت الأبيض انتهاك الأسس الديموقراطية للتجربة الأميركية، بل انتهكتها في الداخل الأميركي تحديداً. النتيجة؟ سقوط مدوٍّ للسلطة وعقلية القمع. خرج نيكسون من البيت الأبيض. ودخلت «ووترغيت» تاريخ فضائح الديموقراطية، مع ملاحظة أن الحدّ الآخر لهذا الأمر الفضائحي هو تجدّد الفعاليّة الديموقراطية أيضاً.

 

تجربة في تبادلات الحريّة

لنحاول النظر إلى إشكاليّة «بريزم» انطلاقاً من أشياء بسيطة، بل من مقارنة سطحيّة. في عام 2001 كان البريد الإلكتروني هو الخيط الرئيس في تواصل الكتل البشرية عبر الإنترنت (وهي أحد أضخم مكاسب الشعوب والأفراد من التقدّم العلمي الراهن) والخيط الرئيس في شبكة تبادل المعلومات المتّصلة بين أفراد الجمهور الواسع. ذات صباح قاتم، ضربت يد الإرهاب المتطرّف المتسربلة بدعاوى إسلاموية ماضوية، في قلب حاضرة العالم المُعاصر: نيويورك. انفلت إرهاب مقيت. جاء الانفلات في لحظة هانئة من تاريخ أميركا، بدت فيه كأن لا همّ لها سوى نشر العولمة ومعطياتها وأسواقها وتقنياتها ومكتسباتها وأدواتها وشبكاتها وتقدّمها. ارتسم أفق قاتم، كأنما الأرض عادت القهقرى إلى أزمنة ظُنّ أنها أصبحت دفينة كتب التاريخ. ضمن أشياء أخرى، ظهر بين صفوف تيار «المحافظين الجُدد» في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، من نظّر لصيغة متطرّفة في حفظ قوة السلطة الأميركية، بل روّجها في صيغة «الأمن مقابل الحريّة». للحظة، غاب عن «المحافظين الجُدد» أن لا شيء أخطر من التعاطي مع الحريّة وتبادلاتها في بلد ربما مثّل أضخم تجربة حريّة إنسانيّة تاريخياً. ووقّع بوش أمراً رئاسيّاً شهيراً اسمه «قانون الشخص الوطني»، اختصاراً «باتريوت آكت» Patriot Act. سمح القانون لـ «مكتب التحقيقات الفيديرالية» (اختصاراً «أف بي آي» FBI)، بتنفيذ برنامج للتجسّس إلكترونيّاً على الإنترنت، خصوصاً البريد الإلكتروني للجمهور.

سُميّ البرنامج تقنيّاً «دي سي إس 1000» DCS 1000، وعُرف على نطاق واسع باسم «كارنيفور» Carnivore. يقف «كانيفور» كعين لا تغمض بين مرسل البريد الإلكتروني ومتلقيه، من دون طلب إذن من الطرفين، ويتفحص الكلمات التي تمر في الرسائل، باحثاً عما يقلق أجهزة الأمن من مفردات مثل «قنابل» و «خطف» و «انتحار» و «فتوى» و «بن لادن» وغيرها.

عندما تتكثّف الكلمات، يدخل «كانيفور» المشتق اسمه من الديناصور، إلى البريد كي يتعرّف إلى التفاصيل، ثم يراقب ويلاحق، بصمت ومن دون اهتمام بحرية الأفراد ولا حقوقهم الشخصية والعامة. إنه تجسس «الأخ الأكبر» الأميركي على شبكة الإنترنت، في عصر تسيد البريد الإلكتروني للتبادل في المعلومات والعلاقات بين الأفراد في مطلع القرن الـ21. استطراداً، يشير مصطلح «الأخ الأكبر»Big Brother إلى رواية «1984» للكاتب الأميركي جورج أورويل، تخيّل فيها حاكماً يراقب الناس جميعاً عبر شاشات لا تنقطع عن رقابتهم في كل مكان. كم باتت المعلوماتية قريبة من هذه الصورة التي كانت خرافيّة!

 

«فايسبوك» يقلق الإمبراطورية

في 2013، انتقل ثِقل هذا التبادل الواسع للمعلومات والأخبار بين الناس إلى الشبكات الاجتماعيّة، على غرار «فايسبوك». لا يصعب الحديث عن مدى اندماج الشبكات الرقمية في الحياة اليومية للناس، بل إنه صار بدهياً في نسيج علاقاتها وشبكات التبادل بين البشر كافة. ضرب الإرهاب مُجدّداً، في «بوسطن» هذه المرّة، وأيضاً متسربلاً بوجه يدعي الإسلاموية وآتٍ من تمرّدات الشيشان في روسيا. وقّع الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، الذي اعتبر وصوله إلى البيت الأبيض قفزة في التاريخ الإنساني، قانوناً يجيز لـ «وكالة الأمن القومي» استعمال برنامج «بريزم» الفائق التطوّر في التجسس الرقمي، بل إنه يراقب غير وسيط في الاتصالات سويّة.

ولا شيء يشغل بال «بريزم» أكثر من الشبكات الاجتماعيّة، بل إنه مُصمّم أساساً للتركيز على متابعة الصفحات الاجتماعية ومُكوّناتها بداية من الـ «ستاتس» ومروراً بقائمة الأصدقاء وإشارات الـ «لايك» وكلمات الـ «كومنت»، ووصولاً إلى المشاركة في الحوادث والمجموعات والاستجابة لدعوات التواقيع والمشاركة في المناسبات الافتراضية وغيرها.

تجمع معلومات كثيفة باستخدام تقنيّة «تنقيب المعلومات» («داتا مايننغ» Data Mining)، سعيّاً لرسم نمط عن الصفحات الاجتماعية التي يجب أن تركز عليها عين «الأخ الأكبر»، ودائماً مع القدرة على اختراق الصفحات ومراقبتها وملاحقة اتصالاتها عبر الإنترنت، ودوماً من دون اهتمام بحقوق الأفراد الشخصية وحرياتهم الفردية والجماعية والقانونيّة.

يمتلك هذا العملاق المتجسّس يداً هائلة أخرى اسمها «باوندليس إنفورمانت» Boundless Informant. بالرجوع إلى القاموس، يعني اسم البرنامج «مُخبِر منفلِت» أو «مُخبِر بلا حدود». يتعامل الـ «مُخبِر» مع المعلومات التي تتصل بالمكالمات (المتّصل، جهة الاتصال، مدّة المخابرة...)، بمعنى أنها تحدّد جهاتها وزمانها.

تتمحوّر موصفات «المخبر» في تنظيم المعلومات وتصنيفها، لكن هذه العمليات تُنجز على مدى أسطوري كليّاً. فخلال أقل من شهر، استـطاع «باوندليس إنفورمانت» جمع 3 بلايين معـلومة منتقاة (بمعنى أنها متّصلة بموضوع مُفرد، هو التفجير في بوسطن) من كومبيوترات تعمل في الولايات المتحدة، إضافة إلى 100 بليون معلومة مشابهة من كومبيوترات خارج أميركا. من المستطاع النظر إلى البرنامج من وجهة أخرى لتوضيح قدرته على تركيز المعلـــومات المتعلّقة بموضوع معيّن (عبر التركيز على الـ «ميتا داتا» Meta Data). جمع البرنامج 14 بليون تقرير معلوماتي عن إيران، و13.5 بليون عن باكستان، وقرابة 12 بليوناً عن مصر وأقل منها قليلاً عن الأردن!

كثيراً ما شُبّه «فايسبوك» بأنه مقهى ضخم يمتد عبر الفضاء الافتراضي، يجلس فيه الأفراد كي يتبادلوا الثرثرة والأحاديث اليومية العابرة والتافهة والشخصيّة والحميمة والفضائحية. ربما شيء من المهرجان في هذا المقهى الافتراضي.

في مكر التاريخ، أن المهرجان كان دوماً مقلقاً لسلطات الدولة الحديثة وسطواتها، خصوصاً لجهة قدرته على مسخرة السطوات والمسلّمات. أما المقهى، فيكفي القول إنه رافق تغييراً تاريخياً في حياة المُدُن الغربية، حين اقتحم الناس فيها الليل، بفضل التقدّم التقني في الإضاءة والكهرباء، وامتدت حياتهم إليهم. حينها أيضاً، هُرِعَت أجهزة القمع إلى مقاهي الليل الناشئة، ونشرت مخبريها فيها، مبرّرة أعمالها بأن مقاهي الليل باتت مرتعاً لنشطاء السياسة والمفكرين الثوريين والمحرضين على التمرّد، فبُرّرت الرقابة والقمع بفضائل المحافظة على الأمن العام!

ما معنى أن تتوازى أفعال حفظ السلطة (خصوصاً تبادلات الحريّة فيها) في الدولة الحديثة من زمن المقهى الليلي وصولاً إلى عصر «فايسبوك»؟ سؤال يحتاج إلى نقاشات واسعة.

حرره: 
م.م