مي سكاف: "قلت للمحقق لا أريد لإبني أن يرأسه حافظ بشار الأسد"
دمشق: "مي سكاف يا صوت الحق، سكَّتوها قالت، لأ، ويلا ارحل يا بشار" بهذه الكلمات ردد الفنان الشعبي الشهيد ابراهيم القاشوش اسم مي سكاف الفنانة السورية في ليالي المليونية الشهيرة في ساحة العاصي في حماه، قبل أن ينهمر الرصاص ليقتل من يقتل من المتظاهرين السلميين.
وقبل ذلك كانت مي سكاف الفنانة اليسارية قد اعتقلت في مظاهرة الفنانين السوريين في دمشق في 13-7-2011 إلى جانب عدد آخر من المشاركين في التظاهرة بينهم الناشطة الحقوقية ريما فليحان، يم مشهدي، فادي زيدان، نضال حسن، سارة الطويل. وكان من بين أبرز الفنانين المشاركين في التظاهرة الفنان الراحل خالد تاجا. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، جرت دماء كثيرة في سوريا وامتلأت المعتقلات، عذب من عذب وقتل من قتل وفر من فر خارج سوريا وتوارى عن الأنظار من توارى، وجرى تفريغ الحياة الفنية والأدبية والفكرية في سوريا وشلها تماما في حملة دموية همجية قصدت إسكات الاصوات الحرة المعبرة عن ضمير الشعب السوري. وفي الوقت الذي تحولت فيه دمشق إلى معتقل كبير يمزق أوصاله 380 حاجزا للامن والشبيحة، وانعدمت كل مظاهر الحياة السلمية، ظلت الفنانة مي سكاف صامدة في بيتها في سفح جبل قاسيون بدمشق، في ظل أجواء من الإرهاب والمضايقات اليومية، لكن صوتها المجاهر بمساندة الثورة السورية لم يسكت، وعزيمتها لم تلن، وروحها الثائرة لم تهدأ. في هذا الحوار النادر معها، تقول: ‘لا أعرف شيئا عن نشاطات الثوار على الأرض لكنني أشعر أنني واحدة منهم’، و’في هذه الثورة نحن السوريين صرنا جسدا واحدا وروحا واحدة’. وتقول مسلحة بشعور عميق بالكرامة: عندي إحساس جميل أنني لو في لحظة من اللحظات استشهدت ستكون تلك اللحظة الأسعد في حياتي’. وتختم حديثها هذا بجملة واحدة: ‘سأظل لا أعرف إلا معنى واحد ووحيداً: يسقط الاستبداد’.
هنا حوار شامل مع مي سكاف أيقونة الثورة السورية الصامدة في دمشق.
*لماذا لم تخرجي من سوريا رغم المضايقات اليومية التي تتعرضين لها من قبل الأمن والشبيحة الذين يحتلون دمشق ويقطعون أوصالها بواسطة 380 حاجزا عسكريا وأمنيا كما تقول مختلف التقارير؟
*كيف أقول لك؟ بعضنا خرج بفعل الخوف، لكن الخوف ينبع من داخلنا، وعندما نقهره فينا لايعود هناك شيء يخيفنا، خصوصا عندما يصرخ فينا نداء الكرامة وتتساوى أسباب الحياة مع أسباب الموت، وهو ما حصل للشباب السوري الثائر على الطغيان. وجدت نفسي خجولة من شجاعتهم وفخورة بهم، فبقيت. تولدت لدي قناعة منذ الايام الأولى أن ما يجري في وطننا سوريا هو شيء تاريخي، وان الإنسان السوري استقظ. والذي صار معي انني رفضت الخروج وقت كان هناك مجال مع مجموعة الفنانين والمثقفين الذين خرجوا وبدا خروجهم مقنعا في ظل حملة الدهم والاعتقال والإرهاب والشلل اليومي. خياري الشخصي يومها أنني رفضت رفضا قاطعا الخروج.. هذا الرفض ليس لأنني اقوم بعمل استثنائي في أنشطة الثورة، ولكن لمجرد انني سأبقى هنا رغم هذا الداهم الصعب والمنتظر والعامر بالآمال. سبق لي أن سافرت خارج سوريا ولم أحب البلاد الباردة، لم أحب غيابي عن الشام. هنا في كل هذه الجلبة الدامية أشعر بكياني وباكتمالي.
أريد أن أستمر في سماع هذا القصف المدفعي مع الباقين هنا في دمشق. بالنسبة للذين يعملون على الأرض لا أعرف أي شيء عن عملهم… لكنني أشعر أنني واحدة منهم. وعندي إحساس جميل أنني لو في لحظة من اللحطات استشهدت ستكون تلك اللحظة الأسعد في حياتي. مت ولم أخرج مكرهة، وأنني لم أنصاع. المشكلة أن الشباب المناضلين داخل سوريا يشعرون أن لا دور لي الآن في ظل التحولات العاصفة التي غلبت عمل السلاح على العمل المدني. ولذلك يقولون لي يجب أن تخرجي. اخرجي واعملي شيئا في الخارج لأجل الثورة، لم يعد مفيدا وجودك هنا. وهم يرون دوري رمزيا وعاطفيا، أكثر منه عمليا.
أحسست أنني تراجعت لأسباب عاطفية وأمنية، بعض الأصدقاء كانوا يرون أن أبقى في التظاهر وفي أعمال الإغاثة. القرار الوحيد الذي أخذته تحت ضغط من أمي أن لا أخرج إلى الإعلام، ولا أتكلم في الفضائيات. كان هذا الطلب من أمي عندما خرجت من المعتقل، وافقت أن لا أتكلم ورفضت التصريح على القنوات، لا سيما انني على قناعة بأن لكل قناة أجندة خاصة بها. ‘الجزيرة’ صار بيني وبينها تجربة سيئة. وانا متأكدة بالنسبة إلى هذه القناة أنها عملت عن سابق تصور وتصميم على تهميش الحراك السلمي والثوري في المناطق التي فيها أقليات حدث هذا في فترة من الفترات.
كان هناك نشاط سلمي للثورة السورية في ثلاث قرى علوية وأخبرني الشباب أن قناة ‘الجزيرة’ ترفض عرض ما يرسلون لها عن نشاطهم. لا يبتهجون كثيرا لفكرة أن في تلك المناطق هناك حراك مصرون على أن المناطق االعلوية ليس فيها حراك. هذا كان قديما. الآن تغيرت الأمور. لكن ظلت نسبية التغير تشبه نسبة الحراك نفسه.
*تتابعين ما يجري في الغوطة الشرقية، قراها وبساتينها ومناطقها المأهولة.. ما الذي يجري هناك؟ ما هي معلوماتك اليومية عما يجري في الغوطة؟
*الغوطة الشرقية؟ لم يعد هناك غوطة. الغوطة لم تعد موجودة، لاعربين ولازملكا، ولا غيرها.. المناطق كلها دمرت نهائيا، عندي فيديوهات يمكنك معها أن ترى كيف أنها كلها صارت على الأرض.
كل أنواع القذائف ضربت على تلك الغوطة. وبسبب البطولات الاسطورية للجيش الحر هي صامدة. هناك جيل كامل استشهد، قادة الكتائب الثوار على الأرض قدموا أنفسهم شهداء على مذبح الحرية، أجيال كاملة انتهت وأجيال جديدة من القادة ولدت في الواقع وعلى الأرض.
*المثقفون السوريون أخذوا مواقف مختلفة منهم من وقف مع الثورة ومنهم من وضع قدما هنا وقدما هناك. منهم من صمت، ولم يتكلم، وصار معتكفا، ومنهم من عادى الثورة بوضوح، أو عاداها بخبث المرواغ. كيف كانت توقعاتك لمواقف المثقفين؟
* رأيي أن هناك ثلاثة أسباب، لو شئت أن تنظر معي من زاوية تحليل ماركسية. المثقفون غالبا ما ينتمون إلى الطبقة الوسطى أو هم يرتقون إليها. هذه الطبقة الانتهازية في الأخير هي عندي كما تبدت في سوريا كانت أقرب إلى مهرجي القصور في الدراما القديمة. هناك قسم من المثقفين ظهر مرتبكا لم يعرف كيف يتصرف ولا أين يذهب. وكان صادقا في ارتباكه، ولأنه لم يوقع ‘بيان الحليب’ لأجل أطفال درعا، ولم ير البذاءة التي تعرضنا لها ولا تعرض للتشبيح، ولكونه طوال حياته كان يسمع عن الممانعة والنظام الممانع وأساطيره الكاذبة ويصدق ما يسمع، صدق حكاية العصابات المسلحة. لم يكن لديه حظ أن يتعرف إلى مثقفين من أمثال فواز الساجر وسعد الله ونوس وممدوح عدوان ومحمد الماغوط ومنى واصف ليتعرف من خلالهم وبواسطة وعي مختلف متقدم على حقيقة النظام. لم يقل له أحد كيف هي الحقيقة.
بالنسبة لي ومع أنني سمعت هؤلاء الناس وربيت في بيئتهم ونقاشاتهم وخلافاتهم…مع ذلك لو أن عاطف نجيب حاكم درعا لم يتصرف بالطريقة التي تصرف بها مع اطفال درعا ومع رجالاتها ما كنت أخذت الموقف الذي أنا عليه اليوم.
إذن لو أنني لم أكن شاركت بالتوقيع على ‘بيان الحليب’ الخاص بدرعا وأخذت موقفا وشاركت في التظاهرات وفي البيانات اللاحقة وفي التعبير عن سخطي ومشاركتي في ما شاركت فيه لأجل التغيير الديمقراطي. لكنت ربما مثلهم لا أفقه شيئا من حقيقة هذا النظام الدموي.
*لكن موقفك المعارض أسبق على ‘بيان الحليب’، فأنت من المثقفات السوريات اللواتي وقعن على إعلان دمشق للتغير الديمقراطي، اليس كذلك؟
* عندك حق، كنت صغيرة عندما وقعت على ‘إعلان دمشق’ يومها جرى التشبيح علي من قبل زعران السلطة وجاءني تلفون من مكتب عقاري بمشروع دمر وإذا بالمتكلم هو أمين الفرع الفلاني، قال: لسانك أقصه لك. وقتها كنت في الجامعة. لذلك قلت إن بعض أبناء المثقفين من الطبقة الوسطى لم يختبروا قذارة النظام. إنهم لم يلمسوا بايديهم الجمر، ولا يعرفون النظام وتاريخه الأسود. سمعوا من حماه كلمتين فقط ‘أحداث حماه’ لم يقرأوا عما فعله حافظ الاسد بتلك المدينة السورية الشهيدة.
يقولون في سوريا حرية. ما هي الحرية يا سيدي؟ إنها حرية الخروج في الليل، حرية السهر، حرية الأكل والشرب واللبس. هل هذه هي الحرية؟ وماذا عن الأفواه المكممة؟ ماذا عن الكرامة المهدورة؟ ماذا عن الفقر والألم والمرض؟ ماذا عن التهميش؟ ماذا عن الإذلال اليومي والاستعباد اليومي للبشر؟ ماذا عن ضياع الآمال؟ ماذا عن مشكلات الشباب وانعدام الفرص؟ ماذا عن الفساد الإداري، كل شيء برشوة والناس في ضيق ذات اليد؟، والسوريون ينحدرون من سيء أسوأ؟
*يعني حرية أن تفعل بنفسك ما تشاء ولكن بعيدا عنهم، بعيدا عن الثروة التي نهبوها من الناس، وعن الدولة التي استملكوها واستحكموا بها وصارت مملكتهم وصار السوريون عبيدهم؟
* نعم أن تفعل بنفسك ما تشاء ولكن بعيدا عنهم. في فرع الأمن الجنائي أثناء التوقيف عند المخابرات سألني مدون التحقيق: شوبدك إنت، بدك حرية؟ كان الضابط يسأل والمدون يسجل أقوالي في دفتره، وكان الضابط جادا في سؤاله فهو يريد حقا أن يعرف جوابا حقيقيا مني. قلت: ‘ما بدي إبني أنو يكون رئيسه حافظ بشار الأسد’. توقف المدون عن التدوين ونظر في وجه المحقق خائفا من تلك الجملة. وفي نظرته سؤال حائر معناه: هل أكتب هذا؟
إذ ذاك أعدت عليه الجملة باللغة الفصحى ورجوته أن يكتبها في التحقيق باللغة الفصحى حرفيا: لا أريد لأبني أن يرأسه ابن بشار الأسد’. نظر مرة أخرى نحو معلمه فقال له الضابط: اكتبها.
تخيل لم يجرؤ على كتابة ما قلت، صار يرجف ونظر في وفي المحقق وكأن نظرته كانت تقول: أكتب أم أضرب؟
*أعود إلى الطبقة الوسطى السورية التي تنتمي إليها غالبية المثقفين، الواقع أن أكثر أبناء هذه الطبقة في سوريا خائف من الإسلاميين، والإسلاميون في الواقع يتزايدون في الحراك الثوري لا نستطيع أبدا أن ننكر وجودهم. وهناك بينهم من يقول لك ‘نصراني ونصيري’… إلخ.
*وماذا عنك أنت؟ هل أنت خائفة، بدورك، من هؤلاء الإسلاميين المتكاثرين في الثورة السورية؟
* الحقيقة، كلما طال الزمن بالثورة قبل أن تنجز أهدافها وتحقق الانتصار الذي يتطلع إليه السوريون كلما اتسعت الهوة بين الناس والثورة. بطبيعة الحال الإسلاميون ليسوا جميعهم متطرفون أو تكفيريون، ناهيك عن أنهم مخلصون وأهل تضحية وشجاعة وسلاحهم نظيف. أمس كنت متضايقة وحزينة لأن ثلاثة من الشباب الرائعين الذين لا يمكن أن نصفهم بأنهم طائفيون استشهدوا في الغوطة. صديقة لي أرتني صورهم وأصبت بحزن وغم كبيرين عليهم.
المسألة مؤلمة. يجب أن لا ننسى أن العالم تخلى عن السوريين وجعلهم يذهبون إلى الاقصى دفاعا عن وجودهم. أريد أن أكون متفائلة وأقول لك بالنسبة إلى هذه النقطة: ‘ما بينخاف من السوريين..’ لا تخافوا من السوريين، لن يكونوا في أي يوم من الأيام متطرفين، لا طبيعتهم تسمح بذلك ولا جغرافيتهم. تاريخهم يقول ذلك ويقول أكثر منه.
* هل تعتقدين أن المثقفين وخصوصا الذين هم خارج سوريا قصروا بحق سوريا وثورتها المتطلعة إلى التغيير الديمقراطي، وهو ما جعلها متروكة في كلّ مهب؟
* أحس أن هناك بين من خرج من سوريا من المثقفين مع بداية الثورة أو من كان أصلا هناك بفعل الهجرة والنفي من لم يتوقف عن العمل والعطاء لأجل سوريا، والآن لأجل الثورة. ومن بين من خرج مضطرا، مثلا، الأخوان ملص، ولويز عبد الكريم، وعبد الحكيم قطيفان، وسمر يزبك وهالة العبد الله، وهيثم حقي، وأسامة محمد وغيرهم كثر…. هؤلاء صاروا إلى جانب من كان أصلا في المنافي والمهاجر من المثقفين السوريين الأحرار، يجب أن نعترف أن هناك أعمالا قيمة ومواقف شجاعة ونتائج لا يمكن المرور عليها… كلها تصب في الأهداف التي يتطلع اليها شعبنا في الحرية والكرامة.
لكن الذين هم داخل سوريا لا يستطيعون أن يكونو أحرارا في حركتهم، غالبية الذين اعطوا أنفسهم في الداخل حرية ما في الإعلان عن مواقفهم نزلوا تحت الأرض، أي أنهم تواروا عن أنظار السلطة وأمنها وشبيحتها. وأنت ترى كيف أن بين آخر من دفنهم شعبنا من الشهداء في دمشق كان المثقف السلمي عمر عزيز الذي مات في سجن عدرا. ومن كان مثلي يخرج من البيت ويواجه الشبيحة والتشبيح ويشبح عليه ويعود إلى البيت.
*هناك بين المثقفين نوع استنكرته الثورة حتى في لافتاتها كالشاعر ادونيس الذي رفع له المتظاهرون لافتة تقول: إلى أدونيس، لو لم يوقف النظام دوري كرة القدم، لكنا اكملنا مظاهراتنا من الملاعب. لا تعيبنا المساجد ولكن يعيبنا قصر نظرك’. ما تعقليقك؟
* هو يرى أن الثورة ليست ثورة إذا خرجت من الجامع. هذا كلام غريب. وأنا أقول له ولكن من أين تريدنا ان نخرج في ظل هذا الاستبداد الأمني. كيف تريد لنا أن نجتمع، وفي سوريا لا يستطيع ثلاثة اشخاص أن يجتمعوا من دون أن يداهمهم الأمن ويسوقهم الى التحقيق؟
هناك في مظاهراتنا السلمية شباب مسيحيون دخلوا المساجد وصلوا مع المصلين ليشاركوا في المظاهرات. وهناك شباب مسلمون ولكنهن غير متدينين دخلوا المساجد وصلوا وهم لا يعرفون قواعد الصلاة ليشاركوا في المظاهرات. كنت أتمنى ان نخرج من المسرح في مظاهرة، حاولنا أن نجتمع عند مسرح الحمراء في دمشق ونخرج في مظاهرة لكنها فشلت فشلا ذريعا وفرقها الأمن حتى من قبل أن تبدأ.
عن المثقفين أقول، وكذلك إليهم أوجه صوتي، نحن نريد ايصال رسالة إلى الناس التي تقصف وتعتقل وتقتل وتهجر لنقول لهم إننا معكم، من ساندنا منذ الأيام الأولى للثورة هم المهمشون الذين يُحرقون اليوم حرقا، هم الفقراء، هم البسطاء الذين لا يعرفون كيف ينشئون صفحة على الفيس بوك. فإن لم يكن دور المثقف أن يقف مع الحرية فاين ينبغي أن نجده؟ الشعراء هم صوت الحرية. هكذا كانوا في كل الأزمنة. ولذلك تبدو لي مواقف بعض شعرائنا وكتابنا وفنانيا مخزية. لكنني لا آبه لهذا، ولا أرجو لأحد منا أن يأبه لمثل هؤلاء… لأن غالبية الشعراء والكتاب والمثقفين والفنانين السوريين داخل سوريا وخارجها هم في الحقيقة أصحاب مواقف شجاعة ونبيلة، وهم مع الثورة، وهؤلاء هم ضمير شعبهم. انظر في التاريخ القريب للعالم، السورياليون والمستقبليون التكعيبيون وغيرهم جميعم كانوا في خندق الحرية، بعضهم ترك القلم والريشة وقاتل الفاشية والنازية في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا خصوصا… قاتلوا الديكتاتور فرنكوا وقاتلوا قاتلوا الدوتشي الفاشي وقاتلوا النازية. كل واحد منهم ترك المكتب والريشة وحمل السلاح وقاتل.
جان جينيه يا أدونيس ذهب الى خيام الفلسطينيين وعاش البؤس بينهم ليكتب مسرحية. لكن مما يؤسف له أن اليسار العربي صوته هزيل وضعيف في هذه الايام العاصفة.
* كيف شعرت عندما نودي باسمك في حماه، عندما عير الثوار بعض المثقفين الدينيين من أمثال د. محمد سعيد رمضان البوطي وسبوه قائلين: ‘يا وزير الأوقاف/قول للبوطي ما يخاف/ويتعلم من مي سكاف’؟
* ليس هناك وصف يليق بذلك الشعور، لا أعرف، لعله الشعور العميق بأننا نحن السوريين صرنا جسدا واحدا وروحا واحدة. مع أنني لم أفعل شيئا يذكر قياسا بتضحيات غيري، لكن ما يرضيني، الآن، أنني اتخذت الموقف الذي لم يسمح لعقلي بأن يغترب عن ضميري. أحب في معرض هذه الحادثة أن أسال أدونيس تحديدا أوليست هذه الحادثة دليل تحضر ومدنية، أن يستنكر الشعب الثائر وزير الأوقاف وأحد كبار رجال الدين في سوريا لموقفه المتخاذل من القتل، ويقوم جمهور متدين بمطالبته بأن يتعلم من شجاعة فنانة، ممثلة؟ أليس هذا دليل تحضر واحترام للمرأة والاختلاف معا؟ أليست هذه خصال مدنية بامتياز يتحلى بها السوريون. ألا تستحق مفارقة كهذه قصيدة في مدنية الشعب السوري، يا شاعر؟
سوف أعتز ما حييت بما ردده الشاعر الشعبي الشهيد ابراهيم القاشوش في حماه رحمه الله :’مي سكاف يا صوت الحق، سكتوها قالت لا، ويلا ارحل يا بشار.’
هل هذه إلا ثورة مدنية؟ ألا تلهم ثورة مدنية عظيمة كهذه الشعراء؟ أم أن الشعراء الأنانيون يتضاءلون أمامها، ولا يبقى لها إلا شعراءها الشعبيين؟ أنا معك إنها يمكن أن تكون انتفاضة تميل يوما بعد يوم إلى أن تأخذ وجها دينيا، وهو ما لا يرضيني شخصيا ولا يرضي آخرين. فنحن أصحاب حلم مدني عصري حديث ولا يقطع ثقافيا مع العالم. لكن كيف حكموا على أن ثورتنا ستقطع مع العالم وتتقوقع في أفكار غامضة وغريبة؟ قد تكون هناك ملامح نبرة طائفية تظهر هنا وهناك بسبب طائفية النظام وعنفه الجنوني، وبسبب القتل الطائفي. وسؤالي للمثقف المعادي للثورة: ماذا تفعل عندما تكون ضد هذه الثورة أو عندما تدير لها ظهرك؟ ألا يعني هذا أنك شريك في القتل؟ عندما لا تدين النظام ولكن تدين ثورة لم يفصلها التاريخ على قياسك. الشاعر طالما كان في خندق الحرية كيف تكون شاعرا وأنت مع الرصاصة ولست مع الجسد.
فلأفترض أن شبابا حفوا شواربهم وأطلقوا ذقونهم. ما معنى هذا؟ هذه مظاهر ليس إلا. المهم المبدأ. هل انت مع حرية الشعب في الاختيار؟ أم أنت مع مواجهة المظاهرات بالرصاص؟ هذه هي الأسئلة التي ارتبك البعض في الجواب عنها؟ هل أقف مع حق الناس؟ أم أقف مع فاشية النظام؟ هذا هو السؤال الجوهري.
*كم تعطين للمثقف من دور الآن في مسار هذه الثورة ومصيرها على الأرض وليس عن بعد.. بحيث لا يترك السلاح وحده ليكون سيد الموقف وصاحب القرار؟
مي: أنا مع أن يأخذ المثقفون خياراتهم بصورة فردية وبطريقة شخصية. ومع ذلك لابد أن أنبّه إلى ان الثورة السورية أفرزت فنانيا ومثقفيها ومفكريها الجدد. الغرافيتي الذي أنجز في جدران سوريا في هذه الفترة لم يعمله فنان من الخارج أو فنان معروف، لكنه ولد مع الثورة، الأهازيج الثورية لم تكن لمثقفين معتمدين معروفين.
هذه ثورة أنتجت فنا جديدا حطم أيقونة الفن السائد. لا تنسى أن الشباب الثائرين حطموا تماثيل الأسد الاب وهي فن النظام ورموزه المقدسة التي أراد من الشعب أن يعبدها. ولذلك كان لابد أن يأتوا بفنهم الجديد.
نحن كنا نلحق بهم لنساعدهم، نمشي وراءهم، إحساسي بأن الثورة السورية هي ثورة جديدة فنيا وأدبيا وفكريا خصوصا في الموسيقا والتعبير الشفاهي. فن الشارع الثائر
ثم ألا تلاحظ كيف أن كل سوري اليوم صار صحافيا، وكيف سقطت التابوهات والتماثيل والأعلام تحت اقدام فناني الثورة؟ وغدا عندما يسقط النظام سيخرج من سوريا فنانون وشعراء وكتاب سيتسلمون دفة الفن الجديد. سيظهر سينمائيون وكتاب سيناريو ومصورون ورسامون ومنشدون جدد شباب جديد شبان وفتيات.
ألم يلفت انتباهك الرجل البخاخ الذي دوّخ المخابرات السورية، شاب من منطقة المالكي يدرس الهندسة، دوخ الأمن السوري، وكل ما يريده أن يكتب على جدران الشوارع كلمات الحرية.
*أريد أن أعود معك إلى جغرافية المعارضة والحركة الثورية في سوريا كيف تنظرين إليها هل هي جغرافيا عادلة في ما تمنحه للحراك؟
*الثورة الفرنسية قامت بعشرة بالمائة من الشعب الفرنسي، في سوريا أكثر من ثلاثين بالمائة من الشعب تشارك في الثورة.
السلمية في الثورة همشها الإعلام، كثيرا. همشت القامشلي، الرقة، الطبقة، دير الزور، السويداء. الوضع بالسويداء وضع ثوري. رفيقاتي المعارضات بينهن دروز كثر. وجود السويداء يتنامى في الثورة وأهلها يلعبون دورا مهما في الإيواء والاحتضان. وكما أشرت من قبل، المناطق التي ليس فيها تنوع طائفي لم يتحدث عنها الإعلام جيدا، ولم تلق التغطية التي تستحقها.
وبالنسبة إلى مثقفي الحراك اليوميين بمعنى العاملين العضويين على الأرض، فإن المعارض الذي يقتل خسارة فهو معارض من زمن بعيد، والثورة كسرت خوفه، أيا تكن طائفته هذا النوع كان معارضا وصامتا لأنه مستضعف ثم وجد الفرصة لكسر خوفه والخروج ليكون قائدا ميدانيا مدنيا وعسكريا. رحيل هؤلاء قتلا في الساحات وتحت التعذيب كارثة. فهم مقتدرون ومدنيون ويجيدون مخاطبة كل فئات المجتمع ويؤمنون بالتنوع وبالحق في الاختلاف. طبعا الثورة ولدت بالتأكيد معارضة جديدة لا نعرفها ولا نعرف مدى مدنيتها أو طائفيتها أو إسلاميتها.
* كيف تستعيدين، الآن يا مي، ونحن على أبواب السنة الثالة من هذه الثورة الشعبية العارمة… هذه الثورة اليتيمة كيف تستعيدين تلك الوجوه النضرة والسمحة التي ووريت التراب من أمثال غياث مطر، وبراء البوشي وباسل شحادة، تلك النضارة المغتالة والمغدورة؟
* سوريا ولادة.. صحيح أن القيادات الشابة الأولى للحراك غالبيتها إما في السجون أو في القبور أو تحت الأرض، في ظروف صعبة، إلا أن سوريا ولادة، وهناك اليوم قيادات جديدة، والثورة مستمرة حتى يوم النصر.
* لكن ما هو مؤلم، باستمرار، أن شهداء سوريا الشباب في غالبيتهم من الفقراء وبسطاء الناس… هل هذا شيء عادل؟
* لا، ليس عادلا، لكنهم ممجدون لأنهم يصنعون العالم ويصنعون الحياة، يعيدون الحرية الى الهواء، فهم ملح الأرض ونور الدنيا. كلما نظرت في تضحياتهم شعرت كم إن إيماني كبير ومعرفتي قليلة. هؤلاء الذين ذكرناهم، والذين لا نستطيع ذكر أسمائهم لأسباب شتى وأيضا لأن أسماءهم كثيرة وأعدادهم هائلة، هم من يغير التاريخ، هم من يصنع التاريخ. وبالتالي فهم ملك التاريخ وأسماؤهم تزينه.
* ثمة أشياء كثيرة تدعو المرء للثورة على النظام، لكن ما أسوأ الصور التي تستعيدها ذاكرتك كلما شعرت أنك إنسان أهين وله حق مضاع ويريد استعادته واستعادة كرامته معه؟
* من ذكرياتي السيئة المؤلمة التي اقترفها حافظ ورفعت الأسد في الثمانينات ذكرى ظلت في خيال طفلة تقود دراجة، شوهت ذاكرتها ربما كانت كفيلة بتقرير موقف عفوي من هذا النظام. وقتها قرر رفعت الأسد أن يجعل فتواته من سرايا الدفاع اللاأخلاقيات يشلّحن الحجاب عن نساء الشام! أعتقد أن الكثيرين من جيلي والأجيال السابقة يذكر هذه الحادثة. في ذاك الزمن كنت أعيش في حي شعبي من أحياء دمشق. هذا الحي الحبيب الذي عاشت فيه عائلتي المتعددة الطوائف (سنة مسيحية علوية).
المهم أن هذه الطفلة التي كنتها لم تنس ولن تنسى مشهد امرأة خمسينية وهي تتوسل وتبكي أمام مجموعة من الجنديات النازيات كي لا ينزعن عنها حجابها، وهن يضحكن ويستمرئن ويسعدن بفعلتهن التي لا تنتمي لفعل البشر. لم أنسها ولن أنساها. هذه المرأة هي سوريا.
عار علينا، عار علينا إن بقي هذا النظام، عار على كل سوري.
*سأسالك أخيرا عن نشاتك. ومنها أسالك كيف تعرفين نفسك ضمن نسيج المجتمع السوري؟
* سؤالك هذا، يجعلني أيمم شطر قصة لابد أن أرويها فقد حان وقتها أو هو الفراغ الذي يسببه العجز، عجزي الخاص في زمن القتل والقصف والاعتقال والتشبيح هو ما يجعلني أروي. وقد حان وقتها لمن يحب من الأصدقاء أن يروي عني. سؤال غبي ربما عاش معي طوال عمري، سؤال يستفزني مذ كنت صغيرة، ليس بسبب أهميته كسؤال صعب، بل بسبب عدم إدراكي له منذ أيام أساتذتي بمادة الديانة في المدرسة وحتى هذه اللحظة.
*المقصود، من أنا؟ سأجيب وسأبدأ من رجل أرمني كان يدعى سين قرسيركيسيان هذا السين كان يعيش في أرمينيا وتعرف على أم جدتي التي كانت تعيش في لواء اسكندرون، طلبها وتزوجا ووقعت الحرب العالمية السفر برلك، وغاب، كانت حاملا عندما غاب ولم يعد. ثم أنجبت طفلة وسمتها هيلانة (جدتي الثانية) عندما صار عمرها سنتين هذه الهيلانة الجميلة صار لها أب يدعى حنا عريان أب ثان. (الظاهر كانت أم جدتي حلوة) هذا الـ حنا عريان كان رجلا وطنيا وكريما وشهما. عندما احتل الأتراك أو اشترى الأتراك لواء اسكندرون رفض الهوية التركية وحمل النساء الثلاث وهاجر إلى بلاد العرب. من قرأ رواية حنا مينة يستطيع أن يقرأ سيرورة العيلة. لأنهم تهجروا بالجملة وصاروا لاجئين، وأُهينوا بالجملة أيضا، لا كنائس استقبلتهم ولا جوامع قبلتهم. قسم منهم بقي في اللاذقية وقسم أتى إلى دمشق أكلوا دود الأرض وورق الشجر كي يبقوا عربا لا أتراكا.
وفي يوم من الأيام تعرف شرطي يدعى يوسف شاويش على جدتي هيلانة.. أحبّ هيلانة أو إيلين، أعرفها وهي جميلة. تزوجها وكان جدي هذا في منتهى الوسامة والكرم خلصها من بيوت شارع الأمين أو شارع اليهود وأتى بها إلى منزل محترم في حي من أحياء المهاجرين؛ حيي الحبيب الذي ولدت فيه وفيه تربيت، ذلك أن أبي عدنان اسكاف الحلبي المسلم توفى بسبب مرض عضال وكنت ما أزال في سنتي الأولى. رباني جدي يوسف شاويش الذي أنجب من جدتي هيلانة بنتا وابنا، تربينا كلنا في منزله. هذه الابنة أحبت مؤلفا مسرحيا بحكم مهنتها كممثلة يدعى سعدالله ونوس، عاشا في بيت جدي سبع سنوات، عشنا جميعا في هذا البيت الفقير، الغني بالحب والثقافة والإبداع والوطنية التي لا تعرف ماهو الاستبداد. أنا مي اسكاف .. لا أعرف أنا شو؟ وسأظل لا أعرف إلا معنى واحد ووحيداً: يسقط الاستبداد.