يا سلام يا سليم!
بقلم: أحمد دحبور
نعمت مساء الأربعاء الفائت، وحولي زهاء ستمئة فلسطيني وفلسطينية، بسهرة نادرة مع الفنان الفلسطيني سليم ضو، في عمله المسرحي المونودرامي «ساغ سليم»، وأستطيع، بكل زهو وفرح، ان أذهب إلى أن تلك السهرة كانت من ليالي رام الله السعيدة.
ويبدو أن المونودراما - أي مسرحية الممثل الواحد - من الفنون المحظوظة في عمق فلسطين، فقد أتيح لي، خلال سنوات قليلة أن أسعد بأداء محمد بكري في عمله «المتشائل»، ومن قبله راضي شحادة في «عنتر في الساحة خيال»، وها هو ذا سليم ضو يوقظ الجمر في الروح، فيضحكنا ويكاد يبكينا، وهو صامد على الخشبة «ساغ سليم»...
ولقد كان مفهوما تماما أنه بدأ العمل من غير أن يرفع الستارة، لأنه لا ستارة أصلا، واذا كان هذا الأسلوب متبعا في بعض المسرحيات الحديثة، فإن سليما لم يعتمد تقليدا معينا، بل كان ينطلق من فكرة جوهرية، هي في أساس مسرحيته هذه، ذلك أنها استمرار لايقاع الحياة العادية، ومواصلة للعيش اليومي حيث لا حاجة إلى المقدمات، بل إنه أنهى مسرحيته هكذا.
إذ لم يعط إشارة توحي بالنهاية، بل اكتفى بأن العمل انتهى عند حد ما، وما على الحياة إلا أن تستأنف مسيرتها في الشوارع والأزقة وفي كل مكان..
وغني عن القول أن مسرح المونودراما الذي يكاد يصبح فنا فلسطينيا، هو فن عريق مجرب على مختلف خشبات المسارح في الدنيا، ولكن التغريبة الفلسطينية أكسبته تلك النكهة المتميزة.
فالفلسطيني المرتحل منذ النكبة، يتأبط متاعه ويضرب في أصقاع الدنيا «كأنما هو في حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه»، وتحضرني في ذلك شخصية الفنانة سامية بكري يوم قدمت مونودراما الزاروب، فحملتنا إلى أزقة عكا القديمة، أو حملتها إلى الخشبة..
ولقد ذرع سليم ضو بجمهوره فضاء فلسطين، تاريخا وجغرافيا وأسئلة لا تنتهي.. فكانت ساعتا العرض زمنا وجوديا أرسلنا إلى الذاكرة واستعادنا إلى الحاضر اليومي..
هكذا بدأ بالتفاصيل الصغيرة، كأن يخالف أبويه في المستقبل الذي رسماه له، ويستوقفنا حتى تكاد تتوقف قلوبنا عند لحظة فراق الأم، ويسخر بمرارة من ظروف معاناة الأهل منذ يوم النكبة عام 1948، عبر سنوات الحكم العسكري الذي فرضه الصهاينة حتى عام 1966. وكيف كان البسطاء يستخدمون كلمة الاستحلال ردا على الاحتلال الذي كان يسمي النكبة يوم الاستقلال.
وإلى ذلك، لم يكن يتفجع أو يستجدي الشفقة، بل كان يضحك ويفسح لنا مسافة للضحك الدرامي، ورحم الله المتنبي: ولكنه ضحك كالبكا..
لقد كان عدد من جمهور المسرحية في مقتبل الشباب، أي أنهم يعرفون بعض ذلك الماضي المؤسي من ذكريات الآباء والأمهات، أو من صفحات كتب التاريخ، فأتى سليم لينكأ تلك الجراح وكأنها تحدث على الهواء مباشرة، وأشهد أني سمعت بعض الشباب والفتيات يتساءلون بعد العرض: هل عاش أهلنا هذا كله حقا؟؟ والواقع أن فريقا من أهلنا قد عايشوا تلك المعاناة، وأعني بهم أولئك الذين ظلوا مقيمين في فلسطين بعد النكبة، فكابدوا حقيقة أنهم أصبحوا أقلية في الوطن، بكل ما يحمله الأبارتايد في طبعته الصهيونية من إذلال وقهر ومحاولات لطمس الهوية.. وفي هذا السياق نتذكر بالطبع تجربة سليم ضو بوصفه فلسطينيا من الجليل الغربي ومن قرية البعنة تحديدا، وما قدمه في عمله هذا، كان شريطا حارا من الذكرى والأسى والفخر الضمني بأنه فلسطيني تمكن وأهله من البقاء على قيد الوطن.
لقد كان من المفروض أن تذهب هذه المسرحية الى هذا الشطر من الحياة المرة، ولكن الذي أنجزه سليم ضو هو أنه أتى بتلك الحياة إلى المسرح، فأعاد انتاج الجرح الوطني والانساني من خلال الضحكة مشفوعة بالدمعة..
وفي تعبيرنا السائد، يقال: فلان صاغ سليم، لكن سليما، وهو من كتب النص أصلا، قد اعتمد لهجته الجليلية الشاغورية، فإذا بالعنوان: ساغ سليم..
ولا يخفى على المتلقي ما في العنوان من دلالة عبر التورية اللغوية بين «ساغ سليم» وبين اسم «سليم» ضو، فاختياره هذا العنوان يحمل الاشارة الصريحة إلى أن تلك تجربته الشخصية، تماما كما هي تجربة أهلنا جميعا من الباقين على أرضهم في الجليل والمثلث والنقب.. لقد كان يمكن أن تتكسر حياتهم بموازاة انكسار أحلامهم، ولكنهم شبوا عن الطوق، فعملوا وكتبوا وأنتجوا، وحققوا معجزة أنهم لم يموتوا بدليل أنهم أمامنا الآن ووضعهم الروحي الوطني ساغ سليم..
لا مفاجأة في أن يحقق سليم ضو نجاحا باهرا في مسرحيته هذه، فهذا الذي سبق أن رأيته يتألق في مسرحيته القناع، كما في فيلم الملجأ وفي فيلم أفنتي بوبلو، هو الفنان المتفوق المنتقل من نجاح إلى نجاح، ولا يزال أمامه الكثير.. فيا سلام عليك يا سليم