كوابيس الشخصية الفلسطينية تحت "سقف" الاحتلال

بقلم: عمر شبانة

في نصوصه عموماً، وفي مجموعته القصصية الجديدة «سقف» (دار أبعاد - بيروت) يكتب الفلسطيني رياض بيدس، قصة مطبوعة بطابع ذهني يمزج، في طواياه، أبعاداً واقعية، وأخرى تجريدية، محتشدة بالرموز ذات الدلالات القريبة التناول غالباً. وهو يتحرك في كتاباته ما بين الهاجس الإنساني الاجتماعي، اليومي والوجودي، وبين السؤال الوطني وما يتضمنه من مكونات الهوية والصراع، في وطن يعاني صوراً من الاحتلال والقهر والاضطهاد. وبذلك تقوم أعماله على النقد الاجتماعي، بكل ما في المجتمع من الأبعاد السياسية والثقافية وجوانب حياة الناس المعيشية. ذلك كله في لغة سردية تراوح بين التكثيف والإطالة التفصيلية، والتكرار أحياناً. لكنها قصة مشغولة بحذق ومهارة أيضا.

رياض بيدس، الذي ولد عام 1960 في قرية شفا عمرو في الجليل، يُعتبر من أفضل كتاب القصة القصيرة في فلسطين المحتلة 1948، كما عبّرت الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها «موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر». يقتبس بيدس، في مطلع مجموعته هذه، عبارة «احفظ ذهنك في الجحيم ولا تيأس»، وهي من أقوال القديس سلوان الآثوسي، (1866 – 1938)، وفي التعريف بهذا القِدّيس الذي لا بد أن له علاقة بقصص المجموعة، نقرأ أنه «كان ذا قوّة جسديّة هائلة، و... بعد أن أمضى زمنًا في حياة التهاون والدنس، وبينما كان في غفوة، انسلّت حيّة ودخلت فاهه وإلى أعماق جسده، فأحسّ بقرفٍ فظيع وصحا. وبعدها اختار طريق الرهبنة».

من خلال إحدى عشرة قصة، يبدو الكاتب متعدد الهموم والهواجس، مُنوّعاً في أساليب التعبير، ومنذ القصة الأولى «السقف»، يستحضر عوالم إنسان فلسطيني يدور بين مشكلاته وهمومه، مفصّلا معالم من حياته في صور عدة. ففي هذه القصة «السقف يرشح»، رغم أن الذي قد بنى هذا البيت «أفضل معمرجي في المنطقة»، و أن «البيت حديث البناء نسبيا». والبيت هنا ليس مجرد بيت، فربما هو إشارة إلى «الدولة» الحديثة البناء، ومن الإشارات إلى ذلك أن «هذا السقف «مصفّد» بكل ما هو ضد الرشح». وتقول الزوجة التي لا نعرف ملامحها: «نحن نحب السقوف العالية، لكنّ ... (وبحثت عن الكلمة الملائمة) لكن الدنيا تغيّرت هنا»، فما الذي تغير؟ وفي ما يخص المصير في المساء كان البيت يغرق. أما العائلة، فكانت تحتمي في أماكن أخرى على أمل إيجاد سقف آخر لا يرشح ولا يدلف بالمرة». فهل هو تنبؤ بمصير هذه «الدولة»؟ هذا سؤال من أسئلة الكاتب وهاجس من هواجسه المُلحّة.

 

السؤال الغريب

في قصة أخرى تحتل الكوابيس حياة الشخص، فهي «تختفي لتعود مرة أخرى»، فيتساءل: «هل هم يرسلونها إليه؟! من يسأل؟ لا يعرف أحداً». فمن هم المقصودون بـ»هُم» هنا؟ إنها كوابيس تصل حد «العِيّ» الذي يجعله حائراً: «من يسأل عمن يرسل له هذه الكوابيس في الليل؟! أساساً، عدا أنه لا يجد أحداً يسأله، فإنه لا يعرف كيف سيسأل هذا السؤال الغريب. هل حدث أن سأله أحد قبله؟». وتتفاقم حال الشخص، وهو «بطل» عدد من القصص في صور مختلفة، في قصة «حب الوطن أو ثلاث وجبات يومياً»، حيث يشعر «أنهم بالمرصاد» (لاحظ «هُم»)، وأن ثمة من «يزرعون المرض فيّ زرعاً لكسري»، فهو هنا «يعاني من اكتئاب حاد»، ويتناول- بلا جدوى- أصنافاً من الأدوية المضادة للإكتئاب، ليكشف «أنهم» يريدون اقتلاعه من البلاد، أو أن يقتلع نفسه، فيتحدى: «لكنني عاندت وصبرت إلى أن عِيل صبري وصبر أعصابي». وينتهي إلى التساؤل: «لماذا يتوجب عليّ أن أتناول ثلاث وجبات يومياً من الدواء الثقيل؟ ما السبب الحقيقي؟ ولا أجد سبباً حقيقياً إلا حب الوطن بعَجَره وبَجَره».

أحياناً تتخذ أسئلة الكاتب، الذي درس التاريخ والفلسفة وتاريخ الفن في جامعة حيفا، لبوساً وجودياً، في قصة ذهنية بأبعاد رمزية وفلسفية، حين يطرح سؤال تكوين الإنسان، من خلال محاورة «المعجون»، رافضاً مصيره التافه «لأنك تسمح للآخرين أن يصنعوا منك دِبَبَةً وقروداً وفِيَلةً وما يشاؤون من دون أدنى اعتراض منك». فمن يقبل أن يكون معجوناً بين أيدي الناس «سيؤول به الأمر إلى ما لا تحمد عقباه». ويختتم: «لا أقبل أن أكون معجوناً إلا في يد خالقي». وفي قصص أخرى يجرد من «المقاعد» شخوصاً يفكك هموم كل منهم، وكذلك حين يجعل من «الشقة» شخصية قصصية تروي حياة ساكنيها. حتى الذباب في إحدى القصص هو ذباب السلطة :»إنه ذباب مقرف غليظ لا يطاق بالمرة، تفوح منه رائحة كريهة جداً ويكاد أن يخرّب أية جلسة طيبة».

وإذ يتخذ الكابوس صوراً تراوح بين الواقعية والرمزية، فإن قصة «الكابوس» تُظهر عمق مأساة الفلسطيني في تعامله مع السلطة، متمثلة في شخصية «تيمورلنك» الذي يمنع المواطن، أو شبه المواطن، حتى من الحلم: «كنت تحلم أنك في صحراء وحدك في كهف»، ولذلك يأمر الأطباء أن يستأصلوا ذاكرته ومنطقة الأحلام في دماغه، ليكون «شاهداً حيّاً على من يجرؤ على المشاغبة والتمرّد في مملكتي».