قطر الدولة الصغيرة والدور الكبير...

مرّة أخرى يبرز اسم دولة قطر على واجهات السياسة والإعلام العربية، ومن بوابة واسعة، هي القضية الفلسطينية، التي تتصدر المصالحة الفلسطينية موضوعاتها وعناوينها، في الواقع لا يستطيع أحد الجزم، بأن اهتمام القيادة القطرية بالقضية الفلسطينية، أعلى من اهتمام الكثير من دول المنطقة، وعلى وجه الخصوص، الدول المحيطة بفلسطين، غير أن اهتمام القيادة القطرية بقطر، ودورها، يبدو وكأنه أعلى من اهتمام الأنظمة العربية ببلدانها، أو لأن الكثير من البلدان العربية، تمر في ظروف داخلية استثنائية، تشغلها عن الاهتمام بالقضايا القومية والإقليمية بالقدر الذي يناسب إمكانيات وسياسات ومصالح تلك الدول.

عبر احتضانها للقاء القمة بين الرئيس محمود عباس، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، الذي تمخض وبسرعة قياسية عن ما يعرف اليوم "بإعلان الدوحة" للمصالحة الوطنية، تكون قطر قد حققت لنفسها نجاحاً، سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً مهماً، حيث يقترن "إعلان الدوحة" بوثيقة المصالحة المصرية التي تم التوقيع عليها من قبل كافة الفصائل في الرابع من أيار الماضي.

يثير الدور القطري النشط في شؤون السياسة العربية، الكثير من الأسئلة التي تتصل بعوامل القوة في الزمن الراهن، فلا هي دولة كبيرة من حيث المساحة الجغرافية، ولا تتمتع بكثافة سكانية، أو ثروات ضخمة بالمقارنة مع غيرها حتى من دول المحيط، ولا هي تمتلك قدرات عسكرية يمكن احتسابها في موازين القوى العربية والإقليمية، فضلاً عن أنها لا تتميز عن الكثير من دول المنطقة فيما يتصل بالموقع الاستراتيجي.

شبه الجزيرة القطرية، تنبع أهميتها من أهمية الدور والوسائل، وطريقة توظيف الإمكانيات المتاحة، وانطلاقاً من شعور قيادتها بالاستقرار، والاطمئنان الذي يستند في الأساس إلى جملة الاتفاقيات والضمانات الأمنية والعسكرية التي تتوفر لها من خلال علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية.

غير أن ثمة فارقا لصالح القيادة القطرية، ذلك أن العديد من دول المنطقة تتمتع بمثل هذه الحماية، ولكنها لا تسعى لتوظيف إمكانياتها لزيادة وزنها السياسي والمعنوي في المنطقة.

ومن الواضح أن قطر مستعدة لأن تدفع ثمن الدور الذي تحظى به، سواء من خلال علاقاتها بدول الغرب، أو بتلبية الاحتياجات المادية التي يتطلبها نجاح هذا الدور. وسائل الإعلام تحدثت عن استعداد قطر للمساهمة بنحو مليار دولار في صندوق إعادة إعمار قطاع غزة، الذي سيكون أحد أهم وظيفتين للحكومة الفلسطينية التي سيجري تشكيلها في القاهرة يوم الثامن عشر من الشهر الجاري.

قبل ذلك كانت قطر قد دفعت لمنظمة التحرير ثمن تخلّيها عن رئاستها للدورة الحالية للجامعة العربية، وكان الغرض من ذلك هو أن تلعب قطر دوراً ريادياً فاعلاً ومهماً في تطورات الوضع السوري، وهو ما يلاحظه الجميع.

يواكب هذا الدور المتنوع، ومتعدد الأشكال، جهد إعلامي ضخم تقدمه "قناة الجزيرة الفضائية"، التي يتسع نفوذها وانتشارها بما يتجاوز الوضع العربي والإقليمي، الأمر الذي يعكس حالة ذكية جداً من التوظيف المكثف لتقنيات ووسائل العصر. قولوا ما تشاؤون في الدور القطري، بشأن الأهداف والدوافع والتداعيات، بما في ذلك إطلاق ما تشاؤون من التوصيفات، والتشكيك، وأظهروا أو استنبطوا ما تشاؤون من مشاعر الحسد والغيرة، لكن الحقيقة هي أن هذا الأداء يثير الإعجاب بقدر ما أنه يثير الاستغراب.

والآن، فإذا كانت الوثيقة المصرية للمصالحة قد شكلت الأساس النظري الذي يعكس ما تم الاتفاق عليه عبر الحوارات المستطيلة، فإن "إعلان الدوحة" هو إعلان تنفيذي مكمل، لا تطمح من ورائه قطر لأن تكون بديلاً عن الدور المصري، الذي يظل هو المركز والأساس الذي لا يستطيع الفلسطينيون القفز عنه أو تجاوزه، حتى لو أرادوا ذلك، وهم بطبيعة الحال لا يفكرون في ذلك.

إعلان "الدوحة للمصالحة الفلسطينية"، ينطوي على جدية عالية، رغم أنه لم يتطلب تدخلاً قوياً من القيادة القطرية للضغط على الطرفين اللذين وقّعاه، الأمر الذي يعني أن ثمة تفهماً من قبل الطرفين لبعضهما البعض، ثم أنهما جادان في إنجاح عملية المصالحة الفلسطينية.

هذه الجدية تثير قلق الكثيرين من أصحاب المصالح المتعارضة في الساحة الفلسطينية مع خط المصالحة، وأيضاً من قبل المتشائمين، الذين لا يقرؤون جيداً أبعاد التطورات الجارية، وآثار التجربة الماضية على القضية الفلسطينية وأهلها. البعض يشكك في النوايا، خصوصاً في ظل خيبات الأمل المتكررة التي شهدتها الساحة الفلسطينية خلال المرحلة السابقة، والبعض الآخر لا يرى سبيلاً للتعبير عن اعتراضه، إلاّ بإثارة نقاط دستورية، على اعتبار أن النظام الأساسي الفلسطيني يفصل بين مهمتي الرئاسة ورئاسة الحكومة، وهي قضية حق، لكنها لم تكن غائبة عن أذهان القيادات التي وافقت عليها، وتدرك أبعادها.

على كل حال، وإذ لا يمكن تجاهل وجاهة هذه الاعتراضات، فإن ثمة ما يبرر ما وقع طالما أن الساحة الفلسطينية تعاني من أزمة ضخمة كالتي تعاني منها وهي في ظروف دولة طبيعية كانت تستحق إعلان حالة طوارئ. وفي الواقع فإن الانقسام بحد ذاته أمر غير دستوري، وكل ما نشأ عنه، غير دستوري، وما هو موجود من مؤسسات غير شرعي، الأمر الذي يوجب إعادة النظر في كل ما هو قائم فعلياً، وذلك من خلال تفعيل دور المجلس التشريعي، الذي ينبغي أن يعود إلى النشاط ومتابعة مهماته التشريعية في أسرع وقت ممكن.

من خلال رصد ردود الفعل على "إعلان الدوحة"، يمكن للمرء أن يلاحظ بسرعة مدى العزلة التي تعاني منها إسرائيل، فبالإضافة إلى ترحيب فصائل العمل الوطني، فقد رحبت الكثير من الدول العربية بالإعلان، وكذلك الحال الاتحاد الأوروبي، فيما رأت الولايات المتحدة فيه أمراً داخلياً يخص الفلسطينيين، ما يجعلنا نعتقد بأن الظروف المحيطة هي بالإجمال دافعة نحو إنجاح المصالحة.

يبقى على الفلسطينيين أن يتنبهوا لما يمكن أن تقدم عليه إسرائيل من حماقات وعدوانات، بذريعة أن الرئيس الفلسطيني تخلى عن السلام، وانحاز لصالح حركة حماس، التي تعتبرها –إسرائيل- حركة إرهابية، غير أن كل ما يمكن أن تقوم به إسرائيل لا يحدث فرقاً جوهرياً. في مطلق الأحوال، فإن الفلسطينيين يدفعون ثمن السياسات الإجرامية الإسرائيلية، فلماذا لا يربحون أنفسهم ووحدتهم، التي تمكنهم من الصمود، ومجابهة المخاطر والتحديات الإسرائيلية بأثمان أقل؟