فلسطين في مهب «ربيع» عربي افتراضي

 

بقلم: هيثم حسين 

على خلاف كثر من الروائيّين الذين يشيرون إلى أنّ أيّ تشابه بين شخصيّاتهم وشخصيّات واقعية هو محض مصادفة لا غير، يلفت الفلسطينيّ محمّد مهيب جبر القارئ إلى أنّ معظم أحداث روايته «90 – 91»، (دارالجندي، القدس 2012) حقيقيّة، ولكن مع تغيير في الأسماء والأماكن، وإضفاء جانب من الخيال للحفاظ على تماسكها بصورة أقرب للكيفيّة التي حدثت بها وربطها بجانب من التراث الفلسطينيّ.

يختار جبر لروايته عنواناً رقميّاً وذلك في تركيز منه على فترة زمنيّة فارقة، فالعالم شهد تغيّرات كبرى بين سنتي 1990و1991، كانهيار الاتّحاد السوفياتيّ، وغزو الكويت وحرب الخليج الثانية، وحرب الإلغاء في لبنان، وغيرها من الأحداث الكبرى التي شهدها العالم. وكان من شأن تلك الاحداث الحاسمة أن تغيّر تركيبة التحالفات القائمة، وقد تغيّرت على إثرها نظم ووضعت أفكار جديدة للألفيّة الجديدة. وبعد تصوير التغيير الذي يجتاح خريطة العالم، ينتقل جبر إلى فلسطين ليلتقط ما يعترك فيها من أحداث ومفارقات، يُبدي كيف أنّ فلسطين لم تكن بمنأى عمّا كان يجري في العالم من عواصف، وهي الباقية في قلب العواصف منذ عقود. فلسطين بطلة رواية جبر، وهي رهينة الاحتلال الإسرائيليّ الذي يستكمل ممارساته العدوانيّة في نسف البنى الاجتماعيّة والسياسيّة، وتغيير المعالم الجغرافيّة وتدمير المعالم الأثريّة بالموازاة مع استكمال التغيير الديمغرافيّ الذي لم تتوقّف عنه.

قهر اجتماعيّ

يستهلّ الكاتب روايته بمشهد التظاهرات تعمّ الشوارع، يسقط الشهداء والجرحى، ويكمن الجنود وراء المتاريس بالمدرّعات والمصفّحات. يركّز بذلك على استمراريّة روح المقاومة في الجيل الجديد عبر شخصية الفتى عمر، ابن السابعة عشرة ربيعاً، الذي يهيّأ لأداء مهامّ صعبة، وذلك في سعي لكشف شبكة محلّيّة من عملاء الاحتلال. يقتفي الفتى أثر العملاء، ويظهر من خلاله طرائق دسّ السمّ في العسل للفلسطينيّ على أرضه، وكيف أنّ العدوّ ينتقي ضرب الحلقات الأضعف في المجتمع، عبر استغلال ذوي النفوس الضعيفة، أو أولئك الذين يعانون مشاكل اجتماعيّة، بحيث يوفّرون لهم حماية اقتصاديّة توهمهم بمكانة اعتباريّة ما، وذلك في نسف لذهنيّة التشبّث بالأرض والأهل.

يستعرض جبر بعضاً من جوانب القهر الاجتماعيّ، ثمّ ينبش تفاصيل الاشتغال على تغيير المكان وأهله، لخلق بيئة منقطعة عن ماضيها، والتحريض على التطبيع النفسيّ بالموازاة مع التطبّع والقولبة، بحيث يصبح الفلسطينيّ صورة مؤطّرة لما يريده العدوّ، ويظلّ مكبّلاً بعقده وأوهامه وعلله. ولا يعدم جبر الطريق إلى البسمة والأمل، وذلك بحرصه على إبداء عمر بسمة الزمن القادم، وإن كان يلاقي المشقّات الكثيرة.

يستحضر الروائيّ في سياق الأحداث مشاهد من سقوط مدينة نابلس الفلسطينية من ضمن بقيّة مدن الضفة الغربية تحت الاحتلال عام 1967. ثمّ يستعرض جوانب من إجرام الاحتلال ووسائله القذرة في تدمير العقول والنفوس عبر دسّ العملاء والجواسيس بين الفلسطينيّين. ويذكّر ببعض السبل القذرة التي اتّبعتها لتجنيدهم. يكون شعبان الصورة المناقضة لعمر، برغم أنّه من أقاربه، يترأس شبكة من العملاء المحلّيين، تحت إشراف ضابط إسرائيليّ، يتراءى له أنّه يجنّد عمر، الذي يكون على تواصل مع المطاردين في الجبال. ويوحي عبر التذكير بعلاقة القربى بين شعبان وعمر أنّ هناك مَن قد يعادي نفسه وأهله في سبيل مكتسبات صغيرة. لكنّ ذلك لا يكون عامّاً، إذ يتبدّى في العائلة نفسها مَن يضحّي بنفسه في سبيل بلده. كما يشير الكاتب إلى التعاون الاستخباراتيّ بين الـ «سي آي إي» و«الموساد»، وبخاصّة في حديثه عن عملية اغتيال عالم فلسطينيّ على يد زوجته العميلة، وذلك بتدبير مشترك.

يحلّل جبر الخلفيّات والدوافع التي قد تدفع بعضهم إلى الوقوع فريسة للعمالة، ومنها السعي للانتقام والثأر، أو تحت ضغط الحاجة إلى المال، أو محاولة إيجاد وسيلة لتصفية الأحقاد، وغيرها من الحالات المرَضيّة التي ترهن أصحابها للعدوّ وغاياته المبيّتة والمعلنة.

ولا يحدّد جبر تنظيماً بعينه من التنظيمات الفلسطينيّة، بل يبقي الحالة معمّمة، كي لا يحصر الفضيلة أو «الرذيلة» بفصيل من دون غيره، وكي لا يقع في فخّ الاصطفاف مع طرف لمصلحة الآخر، لا سيّما أنّ الحالة العامّة تعاني تفكّكاً وشرخاً، بحيث يسعى الأدب إلى المواءمة ورأب الصدع المتعاظم لا إلى زيادة نقاط الاختلاف الكثيرة أصلاً.

 

الذاكرة الشعبيّة

يتّكئ جبر على الذاكرة الشعبية والمخزون الحكائيّ للفلسطينيّ، ينهل منهما معاً إضافة إلى الوقائع، التي يربط في ما بينها ويقدّمها بطريقته الخاصّة. ويقارب العادات التي فرضت على الفلسطينيّين في ظلّ الاحتلال، ومسعى الناس للتكيّف مع القيود، من دون نسيان الإرث والتاريخ.

يقدّم جبر نماذجَ مؤلمة من حياة الفلسطينيّين، يصوّر قصص البطولة بالتزامن مع قصص الخزي والعار، ومع تقديمه حالات مشرقة، ينصبّ التركيز على تشخيص العلل، وكيف أنّ الاحتلال يفرض أساليبه العنصريّة للهيمنة على الحياة اليومية للفلسطينيين. ويلجأ إلى أبشع الوسائل للإيقاع بين الجميع في سعيه لتفكيك المجتمع وتدميره. ويقدّم طرائق التعامل مع العملاء ومعاقبة الخونة ووسائل المقاومين المطارَدين في الجبال للديمومة والاستمرار، ومشاهد من لحظات التوبة والاستتابة، بحيث يظلّ الباب مفتوحاً لمَن يعود إلى رشده.

يُعنون الكاتب فصول روايته الثلاثين عناوين فرعيّة، ومن تلك العناوين: عصفور في عسقلان، بانتظار الحقيقة، قراءة سياسيّة، اغتيال عالم ذرّة، تداعيات ذكرى... وهكذا يبدو كلّ فصل قصّة بذاته في دائرة الرواية المنفتحة على المكان بأهله وأغواره، ومن خلال شخصيّات متعدّدة: عمر، غسان، جليل، ولاء، نعيم، فارس... ويسعى من خلال ذلك إلى التأكيد على تجذّر الفلسطينيّ في أرضه وتشبّثه بها برغم كلّ محاولات العدوّ لتمييعه. وتنكشف خيوط الحبكة، يُقتَل شعبان وغيره من العملاء، ويوقد الشباب شعلة الثورة المتجدّدة.

ويتبدّى بوضوح توظيف الجانب التسجيليّ في الرواية، وذلك في سعي الكاتب الى نقل تفاصيل المكان، متخلّلاً جوانب من الوثائقيّة التاريخيّة، ما جاء على حساب الخيال الفنّيّ في العمل. وربّما يكون ذلك لإظهار الركود المزمن في الواقع الفلسطينيّ أمام تسارع المتغيرات العالمية في سنتين فقط