ينبغي التحقيق مع المحققين

 

بقلم: عميره هاس

مات عرفات جرادات ابن الثلاثين حينما حقق جهاز الامن العام معه. وفي كل اسبوع يسير عشرات إن لم نقل مئات الفلسطينيين في الطريق الذي دُفع اليه في 18 شباط عند اعتقاله. ويستعمل هذا الطريق عشرات الاسرائيليين: من الجنود الذين يعتقلون المشتبه به تحت جنح الظلام، مرورا بالطبيب العسكري الذي يفحص عن صحة السجين الجديد، ومحققي 'الشباك' الذين يتبدلون في نوباتهم، وسجاني مصلحة السجون، والعاملين في عيادة السجن والقاضي الذي يُمدد الاعتقال.

صحيح ان آلافا آخرين يجتازون هذا الطريق بل أطول وأصعب منه ويبقون أحياء. وينبغي ان نفترض ان هذا ما سيقوله رجال جهاز الامن العام ومصلحة السجون دفاعا عن أنفسهم. لكن من وجهة النظر الفلسطينية فان كل محطة في طريق الاعتقال والتحقيق مقرونة بمعاناة جسمية ونفسية عظيمة يُسببها الجيش والشرطة و'الشباك' ومصلحة السجون على عمد تفوق مقادير المعاناة التي يفترض ان يُسببها سلب الحرية واصدار لائحة اتهام. وقد اجتمعت على مر السنين شكاوى معتقلين وسجناء فلسطينيين من منع النوم ساعات طويلة، وتقييد مؤلم طويل، وأعمال إذلال وضربات جافة واهمال طبي. وهذه اعمال تعذيب بحسب التعريفات الدولية.

لم يكن جرادات قنبلة متكتكة بل اعتُقل متهما بأنه رشق بالحجارة أهدافا اسرائيلية ورماها بقنابل حارقة. وبعد ثلاثة ايام تحقيق طلبت الشرطة (باسم 'الشباك') تمديد اعتقاله 15 يوما آخر من اجل التحقيق. وتم نقاش تمديد الاعتقال يوم الخميس، 21 شباط، في مركز تحقيقات 'الشباك' كيشون أمام القاضي العسكري دافيد كدوش. وأمر القاضي بتمديد الاعتقال بـ 12 يوما. وسأل كميل صبار، وهو محام من جهة مكتب شؤون الأسرى في السلطة الفلسطينية في المداولة القاضي الشرطي هل نشأت شبهات اخرى تتعلق بجرادات وأُجيب بالنفي. وسأل هل اعترف بما نُسب اليه وأجاب محقق الشرطة: 'جزئيا'. ومن هنا استنتج المدعي العام ان جرادات اعترف برشق الحجارة.

تدل التجربة على ان ايام التحقيق الاخرى وهي كثيرة قياسا بخفة المخالفات لم تكن ترمي فقط الى استخراج اعترافات اخرى بل الى محاولة جعل المحقق معه يعترف على ناس حوله أو لجمع معلومات شخصية لكنها محرجة كي تُستعمل في المستقبل. وتُبين تقارير المعتقلين المقدمة الى محاميهم ان استعمال منع النوم مع التقييد الطويل والمؤلم شائعان جدا. وتبين في المحكمة العسكرية ايضا ان الناس يعترفون بما لم يفعلوه أو يُدينون آخرين عبثا وذلك كي يدعوهم ينامون فقط.

في الزمن القصير الذي مُنح لهم قبل التباحث في تمديد الاعتقال، استطاع جرادات الذي كان يعاني قبل اعتقاله من انزلاقا غضروفيا أن يقول للمحامي صبار انه يعاني من آلام ظهر وآلاما اخرى بسبب الجلوس الطويل على كرسي زمن التحقيق الطويل. وعلم القاضي كدوش بالآلام من التقرير السري الذي عُرض عليه. وفي الوقت الذي كتب فيه القاضي قراره تحدث جرادات الى محاميه ايضا عن ان السجن في زنزانة معزولة صعب عليه جدا وانه يطلب الانتقال منها. وانطبع في ذهن المحامي صبار ان الشاب في ضائقة نفسية كبيرة وأشرك القاضي في انطباعه هذا. فأضاف القاضي الى القرار: 'يطلب المحامي إذن المحكمة بالحديث عن شأن الصحة النفسية للمشتبه به زمن مكوثه في زنزانة اعتقاله وحده والخوف من ضرر نفسي. ويطلب ان يتم الفحص عن المشتبه به وأن يُصرف اليه الانتباه المطلوب'.

تم التباحث في تمديد الاعتقال في يوم الخميس في العاشرة صباحا وصحيح الى اليوم ان المحامي صبار لا يعلم متى نُقل جرادات الى سجن مجدو حيث مات. إن أحد تقديرات المنظمات الفلسطينية التي تمثل الأسرى هو ان جرادات نُقل الى زنزانة مستنطِقين في مجدو.

بخلاف تحقيقات 'الشباك' التي توثق في سجلات تمتنع السلطات عن تصديق رسمي لوجود مستنطِقين. وتدل التجربة على ان المستنطِقين يستعملون شتى الطرق والتهديدات لاستخراج معلومات (صحيحة أو كاذبة): فهم يفخرون بأعمال بطولتهم على أنهم اعضاء في واحدة من المنظمات الفلسطينية، وينشرون شُبهة ان المعتقل يتعاون لأنه لا يُشركهم في أعمال بطولته ويهددونه ايضا.

يجب ان ينحصر التحقيق في موت جرادات في كل واحدة من المحطات التي مر بها منذ كان اعتقاله. وذلك برغم ان كل تحقيق سيكون فاسدا مسبقا لأن التحقيق الذي جرى على جرادات في جهاز الامن العام لم يوثق بالصور، باذن من المحكمة العليا. وقبل اسبوعين فقط، في السادس من شباط، محا رئيس المحكمة العليا، آشر غرونس، والقاضيان حنان ملتسار ونوعام سولبرغ استئنافا قدمته اربع منظمات حقوق انسان طالبة الغاء تعديل القانون في 2003 الذي أعفى الشرطة من توثيق بصري أو صوتي لتحقيقات مع مشتبه فيهم بمخالفات أمنية. ورأى القضاة انه بسبب ان تعديل القانون يُفحص عنه من جديد 'لم يحن الوقت بعد للفحص عن دعاوى المستأنفين في حقيقة الأمر'.

لا يحتاج الفلسطينيون الى تحقيق اسرائيلي، فهم يرون ان موت جرادات حدثٌ أكبر كثيرا من مأساته ومأساة عائلته. وهم يعلمون من تجربتهم ان موت جرادات ليس دليلا على عدم موت المعتقلين الآخرين بل على أن الجهاز الاسرائيلي يستعمل اعمال التعذيب على الدوام. ويعلمون من تجربتهم ان اعمال التعذيب لا ترمي فقط الى إدانة هذا أو ذاك بل ترمي في الأساس الى ردع واخضاع جمهور كامل.