السلطة تحيل غزة الى التقاعد/قلم رجب ابو سرية
السلطة تحيل غزة الى التقاعد
بعد اللقاء في كامب ديفيد , أدرك الرئيس الراحل " أبو عمار " أن ما أوحى به الأسرائيليون للفلسطينيين , عبر أتفاقات أوسلو _من أن المرحلة الأنتقالية ما بين عامي ( 94 _ 99 ) , والتي تجري خلالها مفاوضات الحل النهائي , فيما يكون الأنسحاب على ثلاث مراحل خلالها قد أنهى الأحتلال من 90% من اراضي الضفة الغربية المحتلة , وذلك كون المتستوطنات والقدس والحدود _ قضايا الحل النهائي _ لا تشكل أكثر من 5% من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة _ ما هو الا وهم , لذا قرر الأنتقال من غزة الى رام اللة , ونقل مستوى العلاقة مع الأسرائيليين من الشكل التفاوضي الى المواجهة , عبر الأنتفاضة الثانية .
ولأن فتح وعددا من فصائل م ت ف , كانت قد تحولت الى تبني أستراتيجية التفاوض , فيما كان البعض الآخر من فصائل م ت ف يعارض الشكل التفاوضي ومرجعياته فقط , بينما تبنت فصائل العمل الأسلامي أستراتيجية المقاومة _ حماس والجهاد الأسلامي _ تحول عمليا أبوعمار الى التحالف الميداني مع هؤلاء , وحاول من خلال أقتطاع 5% من رواتب موظفي السلطة أن يمول كتائب الأقصى , ثم متابعة القصة بعد ذلك كانت معروفة للحميع , حين فرض الأتحاد الأوروبي سلام فياض وزيرا للمالية , لوضع حد لهذا الأقتطاع بالذات , وأبعاد السلطة عن أي علاقة مع " المقاومة " , هذا وقد أنتهى أنتقال ابو عمار من منتدى غزة الى مقاطعة رام اللة بأغتياله , دون أن تجرؤ قيادة السلطة لاحقا على الكشف عن ملابسات وتفاصيل أستشهاده , أو المتورطين في العمالة لأسرائيل , وساعدوا في عملية الأغتيال !
الرد الأسرائيلي على تجاوز الخطوط الحمراء , برفع راية مقاومة الأحتلال في الضفة الغربية , لم يتوقف عند حدود أغتيال رافع تلك الراية , الراحل أبو عمار _ وحسب , بل تتابعت من خلال الأنسحاب من غزة من جانب واحد , أي الأنسحاب بالشروط الأسرائيلية , والتي كان من أخطر ما تضمنته , فصل غزة عن الضفة الغربية , رغم ان اتفاقات أوسلو أعتبرتهما وحدة جغرافية وسياسية وادارية واحدة , ثم كانت أصابع أسرائيل في أشاعة وتأجيج الخلاف بين الفرقاء الفلسطينيين واضحة , وصولا الى تشجيع الأنقسام ومن ثم الأنقلاب , الذي قادته حركة حماس في غزة .
وهكذا أنفصلت غزة عن الضفة الغربية وتمردت حكومة هنية الحمساوية على سلطة الرئيس أبو مازن , وصارت غزة في عالم والضفة الغربية في عالم آخر , حيث قاد كل منهما حرب تطهير سياسي , في المنطقة التي يسيطر عليها , فكانت الأعتقالات القاسية , هنا وهناك , ولأن السلطة خلفت وراءها جيشا من الموظفين العاملين في الوزارات والمؤسسات الرسمية , المدنية وحتى العسكرية , أستمرت في الأعتماد على هؤلاء , للقول بوجودها لوجستيا في غزة , وبقدرتها على قلب الطاولة في وجه حماس في أي وقت .
أكثر من سبعين الف موظف , ظلوا على ولائهم لسلطة ابو مازن ولحكومة سلام فياض , بعضهم واجه " قمعا " تباينت مستوياته من قبل عسكر وامن حماس , الذي حاول أن يفرض على موظفي التعليم والصحة _ خاصة _ العمل الوظيفي تحت قيادتهم , لكنهم وبتعليمات من حكومة فياض " أستنكفوا " عن العمل , وكانت مالية فياض تقوم " بقطع " رواتب من يخالفوا تلك التعليمات التي تقضي بالأستنكاف عن العمل في ظل سيطرة حماس على غزة .
وكثير من هؤلاء الموظفين تعرضوا للتعذيب في سجون حماس , بتهمة " التخابر " مع رام اللة , وهذكا أستمرت حكومة فياض , بأرسال رواتب هؤلاء الموظفين الى حساباتهم البنكية , لأكثر من سبب ودافع , منها : أولا _ أنها تريد ان تستمر في التشبث بخيط الوهم الذي يقول بأنها حكومة كل الوطن الفلسطيني _ أي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس . وثانيا _ الجميع يعرف أن أموال السلطة أنما هي منح خارجية , لذا فأن قرار صرف رواتب الموظفين من عدم صرفها ليس بيد سلام فياض ولا حتى بيد أبو مازن بل بيد المانحين أنفسهم الذين يقدمون المال للسلطة , تماما كما هو حال وكالة غوث اللاجئين . ثالثا _ كانت السلطة تفكر في ان هؤلاء الموظفين قد تحولوا بيدها الى قوة لمواجهة حركة حماس , يمكن أستخدامها في اي وقت , تقرر فيه مواجهة تلك الحركة , وحسم " الصراع " على غزة , حيث يمكن لبعض هؤلاء _ العسكريين خاصة _ أن يخوضوا معركة مع حماس , لو قررت السلطة العودة " بقواتها " من رفح مثلا , كما ان المدنيين يمكن ان يخوضوا عصيانا مدنيا , وأن يخرجوا للشارع منددين يحكم حماس , وان يقوموا " بالثورة " عليها في أي وقت , خاصة وان الجميع قد تعرض للأذى المباشر وعلى اكثر من مستوى , لحظة سيطرة حماس على غزة .
النظرة " الأستخدامية " لغزة , والتي شابت سياسة السلطة في رام اللة كانت واضحة من خلال أستثناء غزة من كل المشاريع التنموية والأنتاجية , التي نفذتها حكومة فياض على مدار 4 سنوات ( 2008 _ 2012 ) خاصة تلك التي جاءت في سياق خطته " انهاء الأحتلال وأقامة مؤسسات الدولة " , ولم ينل أي موظف _ تقريبا _ من موظفي غزة أي أستحقاق وظيفي خلال أكثر من اربع سنوات , لا على سبيل الترفيع ولا كل ما يندرج تحت مسمى العلاوات , وكان واضحا أن حكومة فياض " تمن " على هؤلاء بصرف رواتبهم الشهرية , وكانت قيادة السلطة وعلى اعلى المستويات تردد ليل نهار , ان غزة تأخذ 58% من ميزانية السلطة , مع ان هذا الكلام غير صحيح على الأطلاق , في الوقت الذي نسي هؤلاء فيه ان غزة كانت اول السلطة , وشرارة الأنتفاضة الأولى والثانية , وكانت أول من تمرد على الأحتلال ( المقاومة الشعبية 67_70 ) , وكانت كوادرها الخلايا الأولى لفتح والجبهة الشعبية , التي قادت العمل الوطني منذ عام 65_67 الى الآن , وان غزة كانت حاملة الهوية الوطنية منذ عام 48.
يبدو أن غزة كما كانت ضحية الأنقسام , صارت ضحية " التوافق " على أدارة الأنقسام , والذي مؤشراته الأولى لا تتجاوز الذهاب الى ادارة فدرالية موحدة بين فتح في الضفة وحماس في غزة , ذلك ان قرار " أحالة " موظفي السلطة في غزة الى التقاعد المبكر , ستطال أكثر من ثلاثة ارباع موظفي السلطة في غزة , الذين أمروا بالأستنكاف من قبل , والذين أنتسب معظمهم للسلطة منذ ان تأسست في عام 94 , والان مضى على ذلك اكثر من خمسة عشر عاما , أي تنطبق عليهم سياسة الحكومة المالية لعام 2012 الحالي بالتقاعد المبكر , وهذا يعني انه بعد انتخابات قادمة وفي ظل توحيد الوزارات , سيكون موظفو السلطة " المستنكفون " خارج تلك الوزارات , التي سيملأ شواغرها موظفو حماس الذين عينتهم سلطة الامر الواقع بعد عام 2006 !
هل كان هذا جزءا من اتفاق المصالحة , أم أنه توافق في التنفيذ ؟ أم انه شرط حمساوي لأبقاء فياض على رأس الحكومة وغض النظر عن الأستمرار في عدم تشكيل حكومة التوافق , او حتى فعلا لتهدئة رد فعل حماس على العودة للمفاوضات العبثية التي تجري في عمان ؟ ليس هذا المهم , المهم هو أن سياسة حكومة فياض هذة انما تنال من الحق الطبيعي لعشرات آلاف المواطنين بالعمل حتى يتم تقاعدهم الطبيعي , والتقاعد المبكر , يكون في حالة من أثنتين : اما التوافق بين الطرفين , أي ضرورة ان يكون برضا الموظف نفسه , او أن يبقي على أمتيازات التقاعد الطبيعي , كما حدث مع تقاعد العسكريين , قبل نحو 3 او اربع سنوات , دون ذلك يعتبر تطاولا على حقوق الناس وعدوانا وظيفيا , لابد ان يرد عليه الموظفون المتضررون بكل أشكال المقاومة , من التظاهر الى رفع قضايا التعويض والضرر في المحاكم .