النكسة والخسارة الكبرى

بقلم: 

بعد احتلال مدينة القدس عام 1967، سعت حكومات الاحتلال وبشكل متواصل؛ لإحكام ‏السيطرة على المدينة المقدسة المحتلة، دون أن يمنعها عن ذلك أية اعتبارات، ولذلك فهي باشرت ‏ومنذ اليوم الأول لاحتلال المدينة؛ بإجراءات احتلالية قاسية تجاه المدينة المحتلة، بدأتها بإصدار ‏القوانين الاحتلالية التي ترسخ عملية الاحتلال، وبعدها قامت بإجراءات على الأرض لتغيير وجه ‏المدينة العربي والإسلامي.‏

لقد أقامت حكومات الاحتلال خلال عشرات السنين بما يعتبر عزلاً تامّاً للجزء الشرقي لمدينة القدس، ‏فمن خلال بناء الأحياء الاستيطانية على الأراضي العربية المصادرة، استطاعت دولة الاحتلال أن ‏تشكل  أطواقاً استيطانية متعددة حول المدينة المحتلة، وذلك بهدف عزلها عزلاً كاملاً عن محيطها العربي ‏وصبغها بالطابع اليهودي. وهي قامت ومازالت تقوم بالكثير من الاعتداءات المتواصلة على التراث ‏التاريخي العربي لمدينة القدس؛ ويدل على ذلك الحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال والتي ‏تقصد من ورائها إثبات تاريخ مصطنع في المدينة المحتلة. وما يشهد على ذلك هو المدينة التي تقوم ‏بإنشائها سلطات الاحتلال والمسماة بمدينة داوود، والتي تقام أسفل ومحيط المسجد الأقصى ‏المبارك. هذا بالإضافة إلى الشوارع الالتفافية الضخمة وسكك الحديد والإنشاءات العمرانية الحديثة ‏التي أفقدت المدينة المحتلة وجهها العربي. وقد قامت حكومات الاحتلال زيادةً على الاستيطان ‏بإجراءات احتلالية متعددة تمس الأرض والإنسان المقدسي، والتي من شأنها إغلاق آفاق العيش ‏أمامه ليبحث له عن مكان آخر يسكنه، فقد لاحقت ضرائب الاحتلال المتنوعة التاجر المقدسي، ‏وقيدت له المخالفات الجائرة المتنوعة مما أدى إلى إغلاق الكثير من المنشآت  والمصالح التجارية ‏المتنوعة. كما صعّبت على المواطن المقدسي حصوله على الرخص المطلوبة للبناء على أرضه؛ وإن ‏أعطته فهي تفرض عليه المبالغ الكبيرة للحصول على رخص البناء ويكون ذلك وفق شروط وقيود ‏صعبة، هذا عدا عن إغلاق المؤسسات الاجتماعية والتربوية والرياضية التي تسهم في بناء المجتمع.‏

لقد وَهم الفلسطينيون بأن يعيدوا جزءاً من حقوقهم المسلوبة من خلال عملية التسوية التي بدأت في ‏أوسلو عام 1993، ويستردوا سيادتهم على مدينة القدس المحتلة، إلاّ أنّ تأجيل ملف القدس ‏والذي أعطى للاحتلال مساحةً هامة من الزمن، جعل سلطات الاحتلال تسابق الريح في المضيّ ‏قدماً لإنجاز مشاريعها الاحتلالية في المدينة؛ لتخلق واقعاً يعيق عملية التسوية ويجعل مهمّة المفاوض ‏الفلسطيني مستحيلة في ظل الواقع الحالي لمدينة القدس المحتلة، ويبقى يركض خلف سراب، مما ‏يجعل موضوع القدس عقبة لا يستطيع المفاوض الفلسطيني تجاوزها إلاّ في حالة واحدة وهي التنازل ‏عن الحق العربي والإسلامي فيها.

لقد كان وقع النكسة والهزيمة عام 1967 مرّاً على الفلسطينيين والعرب، إذ هُزمت جيوشهم في ستة أيام، واستطاعت إسرائيل من أن تضاعف مساحة الأراضي التي تسيطر عليها أضعافاً، ولكنّ الخسارة الكبرى التي مني بها العرب والفلسطينيون، في هذه الحرب التي فُرضت عليهم، هي مدينة القدس وما تحويه من إرث روحيّ من خلال مسجدها الأقصى المبارك، الذي نزلت فيه آيات تتلى على مرّ الزمان وفيها ما فيها من أثر النبي عليه السلام وصلاته فيها.

اليوم تعيش مدينة القدس أحلك مراحلها منذ أن تم احتلالها عام 1967، فقد استطاعت حكومات الاحتلال وبلديته في المدينة، من أن تُنشئ مشاريع احتلالية عملاقة فيها، فهي زيادة على هدم المباني وسحب جنسية المواطنين المقدسيين وعمليات الحفر الدائمة التي لا تهدأ ليل نهار وإغلاق المؤسسات الفلسطينية الداعمة لثبات المقدسيين، تستمر دولة الاحتلال بإنشاء المباني والمستوطنات ساعة تلو ساعة على الأراضي الفلسطينية المصادرة، لقد عزلت سلطات الاحتلال مدينة القدس من خلال بناء جدار عنصري عملاق عازل، أدى إلى فصل ما يزيد عن مئة ألف من سكان المدينة المقدسة مما يعيق وصولهم السلس لمدينتهم.

لقد كان ملف مدينة القدس السبب الرئيس في فشل مفاوضات كامب ديفد الثانية، ومن المتوقع أن يبقى سبباً في عدم الوصول إلى أي تسوية سلمية تنتقص الحق العربي والإسلامي في المدينة، ولا يُعتقد أن يجرؤ الفلسطينييون وقياداتهم المتوالية عن التنازل عن حقهم فيها، حتى وإن تمّ التمويه بطرح قدس بديلة، ولا أعتقد أن إسرائيل ستجد من الفلسطينيين من يقبل التفاوض متنازلاً عن حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية فيها.