اللهم آمنا شر حزيران 2016

بقلم: 

تجاوزت الرياضة في تأثيراتها الشمولية حدود الجسد، والروح، إلى ساحات الإقتصاد والسياسة وعلم الإجتماع ، كما تخطى تأثير كرة القدم حدود المستطيل الأخضر، إلى أرض المعارك العسكرية، والثقافية، وشوهت مصالح السياسيين والرأسماليين، رسالتها النبيلة القائمة على التعاون والتقارب بين الشعوب، وإمتاعهم. فطن كبار العلماء والمفكرين والأدباء لسيكولوجيا كرة القدم، إذ قال عنها الفيلسوف الوجودي سارتر بأنها تختصر الحياة كلها، ووصفها عالم الإجتماع الفرنسي الشهير بيير بوردو بأنها دينا جديدا له رسله وأنبياؤه وتعاليمه الجديدة، فيما تجاوز الكاتب إدواردو جاليانو " توصيف بوردو مشبها كرة القدم بالإله قائلاً: "في أي شيء تشبه كرة القدم الإله؟" مجيبا : "في الإجلال الذي يظهره له الكثير من المؤمنين وفي الشك الذي يلاقيه به الكثير من المثقفين."،ووصفها الفيلسوف الكبير " أومبيرتو إيكو" بأفيون الشعوب الحقيقي في زمننا الحالي . لم ينج الشاعر الفلسطيني محمود درويش من سحر الكرة، فقد كتب عام 1986 قصيدته " مارادونا " التي قال فيها " إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء، وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصبا لعارها في الفوكلاند، سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح انكلترا المغرورة الحرب مرتين "

تمتلك كرة القدم كافة اركان علم المعرفة لكي تكون موضوعا سوسيولوجيا كامل الأركان وفق معايير "إميل دوركاهايم" ، إذ تتمظهر في السلوك اليومي للناس، وتتجلى في شتى مستويات هذا السلوك، وتتسم بالبنيوية، إذ أنها وراء تشكيل العديد من البنيات الذهنية المنتجة للمواقف والمعتقدات والقيم، وهذا يظهر جليا في الحالة الألمانية التي استثمرت كرة القدم لبناء جسور ثقة مع غيرها من الشعوب، بعد تحررها من النظام النازي، أو سلبا كما شهدنا بعد المباراة الشهيرة بين مصر والجزائر، كما أن قدرة اللعبة على إعادة أنتاج ذاتها لتحقق الإستمرارية والإمتداد الزمني والمكاني يساهم في اكتمال أركان تلك المعايير. فطنت العديد من الأنظمة الشمولية للتأثيرات النفسية لكرة القدم على الجماهير، وقدرتها الفائقة على شد انتباههم، وطمس غيرها من الأحداث المتزامنة وتقزيمها، أو لنشر قيم محددة، وتعميمها على الجماهير، وهو الهدف الأول لاستضافة النظام الفاشي في ايطاليا لمباريات كأس العالم عام 1934، وهو الأمر الذي استغله الصرب في جرائمهم ضد مسلمي البوسنة عام 1992، حيث تركزت خلال فترة بطولة أمم اوروبا. تنبه المحتل مبكرا إلى سيكولوجية كرة القدم، وغيرها من الألعاب، فعمل على تطويعها لخدمة مصالحه العنصرية، من خلال استخدامها كأحد أدوات التطبيع الإجتماعي، وبالأخص لجيل الأطفال والمراهقين، لتفريغ الأجيال الفلسطينية من قيمها الثقافية والوطنية، وزرع مفاهيم مشوهة في عقولهم، ويخشى المحتل مؤتمر الفيفا أكثر من اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، واجتماعات القمم العربية، وهو الأمر الذي بدا واضحا خلال مؤتمر الفيفا الأخير واستماتة المحتل في الدفاع عن وجوده في المنظمة، أمام المقترح الفلسطيني بطرده، لتيقنه أن أحد عوامل انهيار نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا هو المقاطعة الرياضية له، وحرمانه من المشاركة في الأنشطة الرياضية الدولية، وكرة القدم أضحت أحد أركان السيادة الوطنية، وما تمسك الإتحاد الفلسطيني لكرة القدم بإقامة مباراته مع الأشقاء في المملكة السعودية، ودفاعه عن هذا الحق حتى الرمق الأخير إلا تأكيد لذلك، ودلالة على استحالة الطلاق بين كرة القدم والسياسة.

نجح الاحتلال الاسرائيلي في توقيت جرائمه بما يخدم مصالحه التوسعية العنصرية على أكمل وجه، واستطاع استغلال نتائج هجمات ايلول 2001، لتكثيف جرائمه، وإعادة احتلال الضفة الغربية، وحصارها بشكل خانق، وعمل على انتقاء أوقات جرائمه في ظل انشغال العالم بسحر الكرة، فأعلن استقلال كيانه تزامنا مع انطلاق دورة الألعاب الأولمبية عام 1948، وبدأ حصاره وقصفه لبيروت عام 1982 مع أولى مباريات كأس العالم، واعاد اجتياح الضفة الغربية ومارس أفظع الجرائم خلال مونديالكأس العالم في كوريا واليابان، ونفذ عدوانه على لبنان عام 2006، مع انطلاق مباريات كأس العالم، ووقَت عدوانه على قطاع غزة مع بدء دورة الألعاب الأولمبية في كانون الأول 2008، وارتكب مجزرة أسطول الحرية في المياه الدولية عام 2010، في ظل انطلاق دورة كأس العالم، واعتدى على سوريا عام 2012 في ظل انطلاق الألعاب الأولمبية واقترف أبشع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عام 2014 في ظل انشغال العالم بمتابعة مباريات كأس العالم في البرازيل. ستنظم خلال حزيران وتموز 2016 بطولة أمم أوروبا لكرة القدم، في ظل تصريح نتنياهو قبل أيام لمعهد الدراسات CAP في واشنطن، بأنه قد يتخذ خطوات أحادية تجاه شعبنا، وهو الأمر الذي يشكل مناسبة مثالية له في ظل استمرار حالة الإنقسام الوطني، والفوضى الإقليمية، وهو الأمر الذي يجب أن نعمل على تجاوزه بشكل يتخطى حدود الدعاء والتنظير، إلى ساحة الفعل والتخطيط، لأن الاحتلال ومخططاته ليست قدرا لا يمكن تجاوزه إلا في قلوب وعقول المهزومين ذاتيا.