أوصيكم بأمي

بقلم: 

هذا جيل فلسطيني مختلف، خفيف الوزن، ثقيل النيات، وخطير الرؤية، هو الجيل الخارج عن كل الأرقام، خرج من البيت صافقا الباب بقدمه، وقرّر ألاّ يعود إلى الزوجة أو الأم أو الوظيفة أو مقعد الجامعة، إلا بعد أن يشبع الفكرة فهماً وحباً وقداسة، بعد أن يحولها إلى واقع ملموس، إلى حرية تُمْسَك باليدين، وحق ُيشم بالأنف، وبيارة ُتشرب بالقلب، جيل قرّر أن يتشرّد في فيافي السؤال، لعلّه يعثر على جزيرة الجواب، جيل كسر ظهر المحفوظات الثورية ومنهاج الجغرافيا الأوسلوي الذي قال إن جبل الجرمق ليس أعلى قمة في فلسطين. جيل لم يعد يؤمن بالإنشاء طريقاً للحرية ولا بالغيبيات منهجاً للعودة، جيل لوى عنق البرامج الحزبية، ووضع حواجز على الطرقات، لعرقلة مرور المتكرشين، العائدين مترنحين في ليالي الجنس والمال والسلطة.
هذا جيل واضح المعالم، يعرف ماذا يريد، لا يرد على مكالمات الآباء القلقين، ولا ينهار لصوت الأم الخائفة في خلفية صوت الأب أو الأخ الأكبر، جيل لا يقف باحترام في الشارع أمام سيارات الأمناء العامين للأحزاب، ولا يؤمن برفع يافطات ثورية، ولا يصغي للخطابات الحماسية للقادة. جيل حساس لكذب السياسيين، وذكي إلى درجة الربط بين موقفين عتيقين متناقضين، ضاعا في زحام الدم، للسياسي الفلسطيني نفسه. جيل برؤية بعيدة وباقتراح نضالي مختلف، في سياق مرحلة غريبة صعبة ومعقدة، لم يشهدها الصراع العربي الإسرائيلي. هذا جيل يمتلك معلومات كثيرة، وليس فقط غضباً كثيراً، يحب ماركس بطريقته ويحتقر الإمبريالية الأميركية بطريقته. جيل يشاهد بانتظام السينما الحديثة، يعشق أودي ألن، ويتقزز من سياسة أوباما. وهو محلل هادىء لأوضاع البورصة ومتذوق للأدب الوقح. جيل يسكن الشبكة العنكبوتية، يفرط في العلاقات العاطفية، ويسهر حتى الرابعة فجراً، ويرسب في الرياضيات كل عام، لكن قصص غسان كنفاني تنام على صدره، وقصيدة مديح الظل العالي يفيض بها قلبه، وكتاب "معذبو الأرض" يسيل من خاصرته. جيل يعرف جيداً كيف يخترق حسابات الآخرين، لكنه يعرف أيضاً كيف يرد على حقارات أفيخاي درعي. جيل اعتقدناه جيل الميوعة والسقوط الأخلاقي والتخلي عن الثوابت. جيل فاجأنا، أيما مفاجأة، وخلخل حساباتنا، وأحرجنا أمام توقعاتنا، نحن كهول الانتفاضة الأولى التي اعتبرناها انتفاضة التأسيس للوعي الانتفاضي الجديد. هذا جيل يكتب قصائد الحب في الليل، وفي النهار يكتب نصوص الوعي الثوري الجديد.
هذه (أدناه) ليست وصايا، كتبت ليتبعها مناضلون في بلاد محتلة، ولا هي محاولة من شاب متحمس للفت الانتباه إلى وعيه الجديد، ولا هي حكم أو أمثال صيغت بكل هذا البهاء اللغوي، ليتعظ بها الناس في فلسطين. هذه ليست خطة اضطرارية للقتل، هذه ليست ألعاباً لغوية في التدرب على الدقة اللغوية، وتطابق اللفظ مع المعنى، مارسها شاب فلسطيني طموح.
أدناه: فتح جديد في كتابة الوطن وفي الحلم به وممارسته، رؤية طازجة في مقاربة العالم والنفس وفلسطين، برنامج حب ووعي ملحمي، ابتكره الشهيد بهاء عليان من جبل المكبر في القدس. أدناه: شعر ومعلومات وحداثة ووعي وحب. أهي فلسطين الجديدة؟
أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي، فموتي كان للوطن وليس لكم. لا أريد بوسترات ولا بلايز، فلن تكون ذكراي في بوستر معلق على الجدران فقط. أوصيكم بأمي، لا ترهقوها بأسئلتكم، الهدف منها استعطاف مشاعر المشاهدين، وليس أكثر. لا تزرعوا الحقد في قلب ابني، أتركوه يكتشف وطنه، ويموت من أجل وطنه، وليس من أجل الانتقام لموتي. إن أرادوا هدم بيتي فليهدموه، فالحجر لن يكون أغلى من روح خلقها ربي. لا تحزنوا على استشهادي، احزنوا على ما سيجري لكم من بعدي. لا تبحثوا عما كتبته قبل استشهادي، ابحثوا عما وراء استشهادي. لا تهتفوا بمسيرة جنازتي وتتدافعوا، بل كونوا على وضوء في أثناء صلاة الجنازة، وليس أكثر. لا تجعلوا مني رقماً من الأرقام، تعدونه اليوم وتنسونه غداً.
أراكم في الجنة.

المصدر: 
العربي الجديد