الربيع العربي الثاني

بقلم: 

منذ بضعة أسابيع عادت الاحتجاجات إلى شوارع بيروت، منعشة أمل إعادة انطلاق الربيع العربي. طير السنونو اللبناني، أكد ما كان قد أعلنه طير السنونو العراقي، قبل ذلك ببضعة أسابيع، بأن فصل الربيع قد عاد من جديد.

لقد أغرقت الأنظمة العربية الربيع الأول، ببحر من الدماء والدمار والتهجير، وكافة أشكال الإجرام، وخرجت علينا غِربان الأنظمة بكل أشكالها، ومنهم مُثقفون كنا نثق بهم، ليُعلنوا أن هذا الربيع كان مؤامرة أمريكية، وأنه الذي أنتج الحركات الإسلامية المُتطرفة وليس الأنظمة.

الحقيقة أن المُلاحظ والمُراقب منذ البدء، ومن قرأ تواريخ الثورات عبر العالم، يعلم أن تطور الأحداث والتغيير داخل المجتمعات، لا يتم بحراك واحد، وإنما دائماً هناك ثورة وثورة مضادة، ثم إعادة إطلاق الثورة من جديد، بعد تصحيح أخطائها، وإعادة النظر في أهدافها. رد فعل الأنظمة العنيف، كما رأينا في سوريا ومصر واليمن والعراق، يُبين حجم التحديات التي تواجه هذا الربيع، السنوات الأربع الأخيرة مرت بنوع من الإندفاع والحماس الشديد، ومن بعد ذلك الانحسار. ظهور الحركات الإرهابية الدينية على هامش القمع، ووصول بعض الأحزاب الوسطية للسلطة، أضاف بُعداً جديداً لهذا الانحسار.

في لبنان كما في العراق، عاد الناس للشوارع وللساحات ليُذكروا الكل بأن المواطن هو الأساس، وأن المواطنة والدولة المدنية هي الهدف. الشعارات المرفوعة تتناقض تماماً مع البُعد الطائفي والديني للمليشيات المُسلحة والأحزاب الدينية التي ترعرعت في أحضان هذه الأنظمة وقمعها.

  المواطن اللبناني يرفض في حركته "طلعت ريحتكم"، وضعه في خانة الوصاية والتبعية والخضوع لزعماء الطوائف أو زواريب المذاهب، والمواطن العراقي يرفض أن يُدعى أولاً شيعي أو سني، ويتبع أحزابا دينية طائفية، تحمي الأنظمة وتُبرر وجودها.

  المواطن اللبناني والعراقي في الساحات، يُدافعان عن مدنية الدولة، وعن مساواة المواطنين على اختلاف انتماءاتهم، وحقهم بمحاسبة المسؤولين ومعاقبة الفاسدين، السارقين لخيرات وثروات الوطن.

  وما محاولات النظام احتواء هذا الحراك أولاً، عن طريق تبنيه، وبعد ذلك محاربته وقمعه، إلا وسيلته التقليدية وحيلته التي لم تعد تنطلي على أحد. فالحراك العراقي في المناطق الشيعية يُوازي الحراك العراقي قبل ثلاث سنوات في المناطق السنية ولنفس الأهداف، والذي قابله نوري المالكي بالحديد والنار، وتواطأ لمحاربته مع "داعش". ولكن هل يستطيع النظام استعمال نفس الأساليب هذه المرة، في ما كان مُتفق عليه بأنه حاضنته الاجتماعية؟.

في لبنان الحاضنة الاجتماعية المحسوبة على طيف ديني، قد تفاجئنا أيضاَ كما فاجأنا أخوتنا في جنوب العراق، برفع نفس الشعارات. إذ أن خط الفصل داخل قوى الربيع العربي يتحدد بين الظالم والمظلوم، بين السلطة والشعب، بين المجرمين بكل انواعهم والضحايا بكل فئاتهم وانتماءاتهم، وليس بين فئات الشعب نفسه. الربيع العربي الجديد، إن تأكد، سيختلف عن الربيع الأول؛ في كونه يبحث عن الإطاحة بأنظمة الاستبداد، ولكن أيضاً هذه المرة برفض البُعد الديني السياسي، الذي ظهر في كنفها ان لم يلتحق بمبادئه.

على الأحزاب الدينية بكل أطيافها، أن تنتبه إلى أن عُمق الحراك المدني العربي وقوته, هو كالتسونامي سيجرفها مع الأنظمة، وأن تعلم أن وجود هذه الحركات بكل أطيافها، من الوسطية المُعتدلة إلى المُتطرفة، لم يكن ليحدث أصلاً لولا حركة هذا التيار الاجتماعي العميق، الذي يريد أن يربط الأمة بالحداثة والعالم المُعاصر، عبر اللحاق بمفهوم دولة المواطنة الحديثة الليبرالية التي تساوي بين ابنائها مهما كان دينهم أو عقيدتهم.

  لقد بدأت إرهاصات هذا التيار منذ ثلاثين عاماً عبر التغييرات الاجتماعية العميقة والبطيئة، ولم يكن الربيع العربي إلا المآل التتويجي لها، ولم يكن حدثاً وحيداً معزولا. وقد شهدنا ونشهد في الواقع أن الحاملين لرايات الدولة الدينية، هم كأمواج البحر على السطح، تتلاطم من دون أن تصل إلى أي مكان.

إسلاميو تونس وتركيا استطاعوا أن يواكبوا الحراك الديمقراطي، ويطوروا مبادئهم وشعاراتهم، في اتجاه المطالبة بالدولة المدنية, وهكذا حافظوا على امكانية مشاركتهم برسم مستقبل الامة وانارة الطريق للاخرين.

  ربيع بيروت وربيع بغداد والبصرة، وربما حراك السويداء بسوريا لم يزل في بداياته، نأمل أن يكبُر ويتسع، ليعم كل أنحاء الوطن العربي من جديد، وستكون نقطة اللاعودة فيه هي إسقاط النظام السوري الذي انكسرت على صخرته موجة الربيع الأولى، لتعود وتلتهم ثورة مصر واليمن وليبيا. على أن إزالة هذا النظام في القادم من الأيام، سوف يعيد لا محالة، الموجة إلى الاتجاه الصحيح، ولكن هذه المرة بشعارات وقيادات واعية، لن تترك المكان إلا بعد النصر الكامل.