نحو استفتاء دستوري يؤسس لنظام برلماني وعدالة انتقالية

بقلم: 

النظام السياسي الفلسطيني في آخر حلقات عمره المديد، والمرحلة التي امتدت أكثر من نصف قرن أوشكت على النهاية، والمجتمع الفلسطيني برمته يقف على مفترق طرق خطير، يبدو أنه سيكون على شكل دولة تتمتع بممر بحري  في غزة   وسلطة متآكلة في الضفة الغربية بفعل الصراع الداخلي من جهة ودولة المستوطنين القائمة فعلياً من جهة أخرى، أحيانا يرتدي ثوب السلطة الوطنية الفلسطينية واحيانا أخرى ترتدي قبعة منظمة التحرير الفلسطينية، وأحياناً يرتدى كلاهما معاً، وذلك حسب مصالح الأشخاص القائمين عليها.

لا شك أن منظمة التحرير الفلسطينية قد لعبت دوراً تاريخياً هاماً منذ نشأتها ولغاية الآن،  تمثل في الحفاظ على الهوية الفلسطينية في وقت تعرضت فيه لاستلاب خطير، وتحقيق الاعتراف الدولي بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، إضافة إلى النضال الوطني الذي خاضته فصائل المنظمة، وباعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين  تكون منظمة التحرير الفلسطينية قد اختتمت آخر فصولها النضالية، وأي محاولات للتجديد أو التغير أو سيكون خارج السياق الطبيعي لمهمة منظمة التحرير، فمهمتها التاريخية أوشكت على الانتهاء، وانتهاءها دورها منوط بانتهاء أعمار القائمين عليها، فهي  لم تنجح  في تجديد  دماء  قياداتها، ولا بتجديد وظائفها بعد أن أركنت جانبا منذ عام 1993 ولغاية الآن،  وبذلك لا يمكن للمؤسسات التي لا تتجدد عمرياً ووظيفياً كما يقول علماء السياسة ان تستمر أكثر من أعمار القائمين عليها.

الأمر المهم الآن، كيف سيتصرف القادة الذين رافقوا منظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها ولغاية الآن؟. لا شك أن التحدي الأكبر الذي يواجه نسبة كبيرة منهم، وبمستويات سياسية مختلفة، هو ضمان خروجهم المشرف من الحكم بعيداً عن الملاحقة، أو الانتقام من الخصوم السياسيين إن وصلوا الحكم، ويتطلب ذلك استمرار بسط نفوذهم على منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال  آليات غير ديمقراطية، وهو ما يعني في الوقت ذاته استمرار انحسار وضعف منظمة التحرير الفلسطينية التي ضعفت أصلاً خلال العقدين الماضيين،  وتحويلها إلى منظمة يسيطر عليه المنتفعون، مما يعمق الفجوة داخل المجتمع الفلسطيني،  ويهدد سلمه  الاهلي.

إن أنبل مهمة يمكن أن تقوم بها منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص رئيسها هو اعلان دستوري مؤقت، يكون بمثابة عقد اجتماعي جديد، يجتمع حوله كل الفلسطينيون،  يخضع لاستفتاء شعبي  يصوت عليه الفلسطينيون في الوطن وفي الشتات من خلال السفارات الفلسطينية، بإشراف لجنة الانتخابات المركزية التي يمكن أن يضاف إليها أسماء إضافية من الشتات، لتصبح لجنة الاستفتاء على الإعلان الدستوري، وتقوم بإعداد سجل ناخبين في الوطن الشتات، وتتولى تنفيذ الاستفتاء، وبذلك تملك لاحقاً تجربة تنظيم انتخابات برلمانية.

إن هذا الإعلان الدستوري والذي يجب أن يخضع للاستفتاء لا بد أن يتضمن العديد من النقاط أبرزها:

- إنشاء نظام حكم ديمقراطي برلماني  يمثل الفلسطينيون في الوطن والشتات.

- تقليص صلاحيات رئيس دولة، وتحويل منصبه إلى منصب فخري .

- حل جميع الهياكل السياسية  الأخرى مثل السلطة والمنظمة ومنح جميع صلاحياتهما الى مؤسسات دولة فلسطين.

- إنشاء سلطة قضائية مستقلة وموحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة .

- إنشاء جهاز امني موحد مبني على عقيدة أمنية وطنية وحل كافة الأجهزة والمليشيات التي جاءت على خلفية اتفاق اوسلو أو الإنقسام في غزة.

- منح حصانة عن الملاحقة القانونية للفلسطينيين الذين يعتزلون الحياة السياسية عن جميع الجرائم السياسية التي ارتكبت قبل الاعلان الدستوري، بما يراعي قواعد العدالة الانتقالية.

قد يقول قائل أننا بالنقطة الأخيرة نحصن من ارتكب جرائم سياسية من الملاحقة القانونية، ولا يجوز أن يتم تحصينهم من الملاحقة على هذه الجرائم ولا بد للعدالة أن تأخذ مجراها. أقول ان هذا صحيح،  لكننا بكل الأحوال لا نملك النظام السياسي الذي يمكن أن يلاحق هؤلاء  الأشخاص على جرائهم، فغالبيتهم لا زالوا متنفذين  ويتحكمون بالقرار الفلسطيني، وبقاء هاجس الخوف لدى بعضهم من الملاحقة، يدفعهم للاستمرار بالسيطرة على الحكم والتمترس به، وإزاحتهم لا يمكن أن تكون إلا بثمن غالي يهدد السلم الأهلي في المجتمع الفلسطيني،  ومن مصلحتنا جميعاً أن نتنجنب دفع مثل هذا الثمن ، إذا كانت الحصانة بديلاً للخوص في مستنقع  مجهول.

ان مبدأ العدالة الانتقالية كان الطريقة الوحيدة التي استطاعت الكثير من البلدان بواسطتها بناء أنظمة سياسية ديمقراطية،  أنقذها من السير نحو المجهول. اعتقد برأيي المتواضع أن هذا هو أفضل انجاز سياسي ومجتمعي يمكن أن يحققه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأن ينهي به حياته السياسية، ويمكن أن يخلده في صفوف العظماء، فهو قادر على تحصين فلسطين من  مخاطر العنف والثأر والانتقام، وعليه ان لا يغادر الحكم قبل أن يفعل ذلك،  وأن يرى بعين ثاقبة أن كل ما تشهده فلسطين  الآن هو صراع على من سيخلف في منصب الرئيس، فلماذا لا يضمن الرئيس دستورياً أن يخلفه نظام حكم برلماني يستمد شرعية ذلك من إعلان دستوري يستفتي عليه الشعب، فمثل هذا الإعلان لا يمكن لمجلس وطني غير منتخب أن يمنحه هذه الشرعية ما لم يعرض على استفتاء شعبي، وبذلك يصبح الشعب هو المسؤول عن حماية هذا المشروع.

إننا نعيش في هذه الأيام لحظة تاريخية واقعة بين المخاض والاحتضار، والرئيس هو الشخص الوحيد القادر على حسمها  وتحويلها لمخاض لميلاد مولود جديد لا احتضار، وانصح ان يتم ذلك بعيداً عن استشارة بعض المقربين الذين يدفعون بخطوات تقرب من توزيع ميراث الحكم، لا بناء وطن لكل الفلسطينيين.

 

 

المقال منقول عن وكالة وطن للأنباء