في الظل: د. محمد مصطفى.. قبضة المال

بقلم: 

الحياة الجديدة- بيده اليمنى يدير المال، وباليسرى يضع خطط الإصلاح والتنمية في دول العالم النامي، كانت آخرها مبادرته لتعزيز المسار الاقتصادي الفلسطيني بتعزيز القدرات المحلية. تركزت تجربته الواسعة في البنك الدولي. لكن هذا كله لا ينفي أنه لا يجيد القيام بأبسط الواجبات المنزلية كالتسوق من متجر صغير! إنه الدكتور محمد مصطفى رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني، من قرية سفارين، مواليد كفر صور عام 1954. اتسمت حياته بالانشغال الدائم منذ صغره، لذا فاته الكثير من مغامرات ومشاكسات الطفولة والمراهقة. الرجل صاحب الملامح الجادة والعابسة إجمالاً، هو شخصية يصعب قراءة مشاعرها إلا أنه ودود تسعده أبسط المواقف كوجبة همبرغر، وتبكيه أخرى..

ابن الشاويش
هو ابن الشاويش عبد الله محمد مصطفى الذي كان يعمل في حيفا وابن قرية سفارين قضاء طولكرم المعروفة بأعلى نسبة تعليم في فلسطين والمهجر حسب احصائيات منظمة الأمم المتحدة عام 2010، كما يعود اسم القرية إلى الأسفار والكتب. ولد محمد عام 1954 في قرية كفر صور حيث هاجرت عائلته بعد نكسة عام 1967 وهي بلدة والدته، وفيها أطلق على العائلة لقب "السفاريني" نسبة إلى مسقط رأسه.

محمد هو الابن الأوسط بين إخوته الذكور الثلاثة والخامس بين ستة اخوة وأخوات، ورغم أنه ليس الابن البكر ولا آخر العنقود إلا أنه كان الطفل المدلل، ويتهم اخوانه والده دومًا بالتحيز له. ويبدو أنه يستحق ذلك كونه كان طفلاً هادئًا متسامحًا ومتفوقًا، لا يشغل بال والديه، باختصار هو الأقل مشاكل بين اخوته وحياته تسير بسلاسة.

حارس المرمى والسن المكسور
بصعوبة بالغة مستمدة من جديته وتركيزه الذي يبدو وكأنه ملامح عابسة كما يظهر عبر عدسات الكاميرا، بل إن زوجته وصفته بأنه يتصرف كرجل كبير منذ تعرفت عليه وهو في العشرينيات، لذا تحدث عن هواياته صغيرًا بصعوبة، فكان حارس مرمى جيدا في لعبة كرة القدم سواء في فريق المدرسة أو فريق الحي، انكسر سنه الأمامي خلال إحدى المباريات. كان يقضي وقته أيضًا في قيادة الدراجات الهوائية التي يستأجرها وأصدقاؤه ويجوبون بها أراضي لوز وزيتون كفر صور. في المدرسة اعتاد أن يفشي أحد أساتذته له نبأ أنه الأول على صفه، وكانت هذه إشارة واضحة ومباشرة ليجلب في اليوم التالي الحلوان وهو عبارة عن علبة شوكولاتة سلفانا كانت دارجة في ذلك الوقت. اعتاد طوال حياته أن يقضي وقته بين الدراسة والعمل، فأخفق في مهام بسيطة كالتبضع للبيت أو القيام بالواجبات الاجتماعية.

الصحفي الجامعي
بعد النكسة أصبح والد محمد يعمل في الكويت وبعد سنوات التحقت به العائلة، كان ذلك عام 1969 أي وهو في الخامسة عشرة من عمره وفيها أنهى الثانوية العامة، ثم درس هندسة الكهرباء في جامعة بغداد، ولم يعد إلى فلسطين إلا بعد عام 2005، وفي الجامعة كان صحفيًّا هاويًا حيث كرس نشاطاته الجامعية القليلة في اصدار مجلة لطلبة الجامعة، وحتى اليوم يشهد له زملاؤه حرصه على سلامة اللغة ومع ذلك فإنه يعتقد أن لغته العربية تأثرت خاصة في مجال الخطابة كونه عاش في أميركا أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا.

فلسفة القراءة
لا أحد ممن قابلتهم للكتابة عن سيرة حياتهم إلا ويمارسون عادة القراءة، فالكتاب لا يزال هو الجندي المجهول الذي يقف وراء الانتصارات والنجاحات، فها هي طفولة محمد الهادئة والمنشغلة بالدراسة حولته إلى قارئ نهم، حتى إنه كان يضع الكتاب إلى جانبه أثناء لعب الورق وهي هواية تركها ربما منتصف العشرينيات لعدم توفر الوقت. القراءة لديه ليست ذات رغبة أو توجه، فقال: "أقرأ في الأدب والفلسفة والسياسة والاقتصاد، ولم تصبح لدي صبغة فكرية أو فلسفية معينة". لذا لم يكن لديه كاتب مفضل، سوى في فترة واحدة في حياته حين عاش في العراق، حيث راقت له أفكار عالم الاجتماع العراقي علي الوردي وهو أكثر شخصية برأيه فتحت له آفاقًا جديدة في فهم العديد من القضايا، فالوردي عالم اشتهر بأفكاره العلمانية والموضوعية ومن أبرز مؤلفاته "مهزلة العقل البشري" و"وعاظ السلاطين"، وفيها حاول فهم الطبيعة البشرية المترفة بمنطق اجتماعي.

فاته قطار المراهقة
من منا لم يحب في فترة المراهقة أو حتى أوهمته نظرة ما بقصة ما.. يبدو أن الدكتور محمد مصطفى هو الوحيد الذي لم يفعل ذلك، فكان انشغاله بالدراسة واكتظاظ الأرقام في رأسه لا سيما مع عشقه للرياضيات هو الطاغي في حياته. فعلق قائلاً: "أعتقد أنني سأخيب أملك...". ويبدو أنه "يندم" على ما فاته من مغامرات وسهرات.. لكن رغم أنه لم يعش مغامرات الحب إلا أنه استسلم لامرأة واحدة.

محمد مصطفى.. زوج مرفوض!
عندما تخرج عام 1976 عاد إلى الكويت، وكانت تربط عائلته علاقات مع عائلة زوجته آمال القاق ابنة قرية سلوان التي كانت وقتها لم تنه الثانوية العامة، أعجب بها وقبل أن يقع في الغرام كانت المعادلة الرياضية واضحة بالنسبة إليه: "فتاة جميلة ومهذبة+ عائلة محترمة+ اعجاب= زواج". لكن يبدو أن المعادلات الاجتماعية ليست بهذه الدقة فقد تم رفضه ببساطة لأن العائلة تريد لابنتها أن تتابع دراستها، هذا رغم أنه كان يعمل مهندسًا آنذاك في إحدى الشركات الكويتية.

بعد عامين أعاد محمد طلب يدها وكان قد ترفع إلى مسؤول المهندسين في تلك الشركة. وافقت العائلة ووافقت آمال أن ترتبط بـ: "شاب وسيم، طموح، ومهذب" كما قالت لي وتحولت هذه المعادلات إلى زواج عام 1980 ثم عائلة فيها مصعب ويزن. وحول انشغاله وسفره ومسؤولياته الكثيرة البعد عن الزوجة والعائلة إلى حب وشوق أكثر فأكثر...

الطريق إلى الموسيقى
كان له صديق عراقي تركماني أيام الدراسة هو بطل العراق في لعبة الشطرنج والثالث على مستوى العالم، وهو كان السبب في احتراف محمد اللعبة وتعلم الاستماع للموسيقى الكلاسيكية العالمية، ففي العراق أذهلته فكرة وجود أوركسترا كانت تعزف وقتها خلف مايسترو هولندي مكونة من مئة عازف وعازفة تعزف في وقت واحد وضمن نسق وتناغم جميل.. نقل الهوايتين للعائلة؛ فتعلم ولداه الشطرنج واشتركت العائلة في مركز للفنون خلال تواجدهم في أميركا لحضور حفل موسيقي مرة في الشهر على الأقل.

حظ "بفلق" الصخر.. بثلاثين ألف دولار!
كان أول عمل له هو بعد أن تخرج من جامعة بغداد مهندساً في مكتب استشاري، ثم في شركة مقاولات كويتية- إنجليزية مشتركة، وفيها كانت فرصته وحظه "اللي بيفلق الصخر" حيث كان لمشاكل الشركة والإدارة فوائد عليه فكان أول قرار بعد تغيير الإدارة تعيينه رئيسًا للمهندسين، ليصبح وهو في الخامسة والعشرين مسؤولاً عن ثلاثين مهندسًا ونحو ثلاثمئة موظف وموظفة. لم يكن المنصب فقط التحدي له بل الكارثة التي وقعت فيها الشركة لتفي بالتزاماتها في أحد العطاءات الضخمة التي رست عليها، حيث لم تصل الشحنة التي كانت مقررة من إسبانيا، وكان المطلوب من رئيس المهندسين الجديد الحل، خلال أيام قدم محمد المقترح بالتعامل مع شركة أميركية تستطيع أن توفر الشحنة المطلوبة وبمواصفات قريبة من المطلوب بعد بحث مستفيض عن شركة تستطيع أن تقوم بالمهمة وهو بحث في وقت لم يكن فيها العم "جوجل" موجودًا! وافق مالك الشركة وسافر محمد إلى أميركا ليتمم الاتفاقية وهناك أكل أول وجبة هامبرغر. كان المقابل مغريًا مقابل إنهاء أزمة الشركة وهو مكافأة قيمتها عشرة آلاف دينار كويتي –ما يعادل ثلاثين ألف دولار- وهو المبلغ الذي سند العائلة عندما قرر الرحيل إلى أميركا للدراسة لاحقًا، فالدكتور وبصراحة اعترف أنه لم يحب مهنة الهندسة الشاقة وابتسم وهو يشير إلى أنه يفضل ربطة العنق فتحول بدراسته نحو المال والأعمال والاقتصاد.

عمل مصطفى في معهد الكويت للأبحاث العلمية والاقتصادية محللاً ومستشارًا اقتصاديًّا للدراسات والمشاريع، وفيها خاض أولى تجارب الخصخصة التي بدأ الكويتيون يتوجهون لها عام 1989 فساهم وزملاؤه بادخال أول شركة موبايل، وفي إعادة تأهيل قطاع الاتصالات وخصخصة وزارة الاتصالات الكويتية.
كتب طرائف.. هدية للرجل العابس!

بعد سبع سنوات من العمل والنجاح في الكويت قرر أن يتابع دراساته العليا ويترك وظيفته وراتبه المغري ليسافر وزوجته وابنه مصعب إلى أميركا حيث تابعت زوجته دراستها، والتحق هو بجامعة جورج تاون وفور التحاقه ببرنامج الماجستير كان أستاذًا مساعدًا في الجامعة، ثم حصل على درجة الدكتوراة وكان عنوان رسالته: "نظام جديد لدعم اتخاذ القرار في تخصيص الموارد المالية للمشروعات العامة في الموازنة، مع مراعاة العوامل المختلفة بما فيها المالية والاقتصادية والاجتماعية".

لا يذكر الدكتور محمد مصطفى أنه كان يلاعب طفليه لكنه كان يصطحبهم بعض الرحلات ويهتم بحضور نشاطاتهما في المدارس ومن بعيد يتابع تفاصيل البيت لحظة بلحظة. وفي الجامعة بأميركا لاحظ زميله أستاذ الرياضيات توم ساعاتي جدية الدكتور، فأحضر له هدية غريبة هي خمسة عشر كتابًا من النكت التي جمعها الأستاذ، فقد وجد ببساطة أن الطلبة بحاجة للتسلية ليستطيعوا فهم المادة العلمية المعقدة التي يشرحها، ضحك محمد مصطفى وهو يقول: "أفكر أن أفعل مثله"!.

الحظ حليفه.. مرة أخرى
بعد الدكتوراة حصل على عرض للعمل في البنك الدولي في إدارة الغاز والبنزين، لكن رغبة العائلة كانت العودة إلى الكويت، وافق الدكتور ولم يرفض عرض العمل، سافروا ليبدأ الاجتياح العراقي للكويت (1990) في الوقت الذي استعدت فيه العائلة لاستقبال الابن الثاني بعد عشر سنوات من الغربة والدراسة والعمل، وبسرعة اتخذ الدكتور قرار العودة إلى أميركا، فيما بقيت زوجته وهي في شهرها الأخير من الحمل، كان لا يريد لابنه أن يتأخر عن دخول الصف الأول فأخذه إلى الأردن وتركه في رعاية أخت زوجته وغادر إلى أميركا، وبعد شهور لحقت به زوجته.

عمل مصطفى في إدارة الصناعة والطاقة لمنطقة افريقيا ثم تنقل بين عدة إدارات في البنك فعمل في قسم أوروبا الشرقية ثم إدارة البنية التحتية والخصخصة لمنطقة الشرق الأوسط واكتسب خبرة في مجال ترخيص وتطوير شركات الاتصالات مثل شركتي أورنج وفاست لينك في الأردن وشركة الاتصالات السعودية، وشركات في مصر ولبنان وأفريقيا وبلغاريا وروسيا إلى أن عاد عام 1995 مع أوسلو ويمضي عامًا ونصف العام للمساهمة في تأسيس قطاع الاتصالات في فلسطين انطلاقاً من خبرته في الدول النامية التي تعيش ظروفاً قاسية وفقيرة مشابهة، ثم عاد للبنك الدولي، وفي عام 2005 عاد نهائيًّا إلى فلسطين.

رحيل الوالدة بين مسؤولياته الكثيرة
كان الوقت ليلاً حين شارك الدكتور في اجتماع للبرلمان الأوروبي في سالزبورغ ضمن وفد مع الرئيس أبو مازن، للخروج من الأزمة المالية للحكومة الفلسطينية التي ترأسها اسماعيل هنية عام 2006، وفي الصباح سار في جنازة والدته وتقبل واجب العزاء قبل أن يلتحق بالوفد ليلاً. وفي الكواليس وعندما يحتضن وسادته ربما بكى وتذكر أمه التي كانت نحلة البيت التي تستيقظ قبلهم وتصر على أن تقوم بكل شيء بنفسها ابتداءً من حقائب أبنائها المدرسية و"العصرونة" إلى أن تطمئن أنهم يحلمون كلٌّ على وسادته.. ورغم هالة المال والسلطة إلا أنه قد يبكي وفعلها حزنًا على موت والد زوجته الذي كان يحبه.

وتبقى الدراجة الهوائية
يعتقد محمد مصطفى أنه حقق أكثر مما توقع من قدراته بل إنه لم يتخيل أنه سيكون له كل هذه التجارب وأن الحظ سيكون حليفًا له، وفي عام 2005 أي بعد فوز الرئيس أبو مازن بالانتخابات كان يبحث عن شخص مناسب ليترأس صندوق الاستثمار، ويبدو أنه سمع ممن حوله عن الدكتور مصطفى وخبرته وكانت أول مرة يقابل فيها الرئيس في أيار بعدها استقر في الوطن بعد غياب طويل، عيّنه الرئيس مستشاره الاقتصادي ريثما تصبح وظيفة الصندوق جاهزة بعد شهور قليلة.
رغم المنصب والإنجاز والمسيرة الطويلة يبقى طموح الدكتور محمد مصطفى فلسطينيًّا خالصًا وهو أن يعيش لحظة الاستقلال، وقتها سيعود إلى حياته الطبيعية بعيدًا عن السياسة والاقتصاد. لكن حلمه الشخصي عدا عن رغبته في قضاء وقت مع عائلته أن يقتني دراجة هوائية التي لم يمتلكها يومًا وينطلق..